مصريون لا يعرفون اللحمة إلا بالمناسبات

مصريون لا يعرفون اللحمة إلا بالمناسبات

17 أكتوبر 2018
الحياة الصعبة (فايد الجزيري/ Getty)
+ الخط -


تشير تقارير اقتصادية مصرية إلى أنّ في مصر أكثر من 37 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، من بينهم 11.8 مليون مواطن ينفقون أقل من 333 جنيهاً (18.5 دولاراً أميركياً) في الشهر، والعدد الباقي فقراء لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الغذائية وغير الغذائية. ترتفع نسبة الفقر في محافظات الصعيد خصوصاً، بسبب غياب فرص العمل، والاعتماد على الزراعة التي قلّت مساحاتها بسبب طغيان الرقعة السكنية، وضرب السياحة. وصلت نسبة الفقراء إلى أعلى مستوياتها في الصعيد في محافظتي سوهاج وأسيوط بنسبة بلغت 66 في المائة من سكانهما، تليهما محافظة قنا بنسبة 58 في المائة، وفي المقابل، وصلت في محافظة الإسكندرية الساحلية إلى 11.6 في المائة. 

ويتحدّث مراقبون عن عشرات من الدلائل على انتشار الفقر في محافظات مصر، من بينها هاجس الأهالي الدائم من احتمال توقف بطاقة التموين المخصصة للحصول على الزيت والسكر وغيرهما، إذ يتكدس يومياً كثير من الأهالي منذ الصباح الباكر أمام مكاتب التموين، لإضافة مواليد جدد أو تحديث البطاقة، وهو ما طلبته الحكومة، كما يأتي آخرون لمعرفة أسباب الحذف العشوائي لعدد من أفراد البطاقة. وبسبب التكدس تحدث مشاجرات يومية أمام تلك المكاتب.

من شدة العوز، لم يجد فقراء مصر المعدمون مكاناً لهم بين الأحياء فعاشوا بين الأموات، إذ تشير الإحصاءات إلى أنّ أعداد سكان المقابر بلغت مليوناً ونصف مليون شخص، معظمهم في القاهرة، إذ يعيشون في مقابر السيدة نفيسة والنصر والبساتين والتونسي والإمام الشافعي وباب الوزير والغفير والمجاورين والإمام الليثي ومدينة نصر، لعدم وجود مأوى آخر لهم. وسكان المقابر يزدادون يوماً بعد آخر مع ازدياد نسبة الفقر في مصر.

يواجه المواطن المصري في هذه الأيام، ارتفاعاً كبيراً في الأسعار، خصوصاً بعد قرار الحكومة المصرية، العام الماضي، تعويم الجنيه أمام الدولار، الأمر الذي حال دون توفير أبسط الضروريات الأساسية في حياتهم اليومية، وتمضي الأيام على هؤلاء مريرة بسبب ضيق الحال، ويختنق المواطن المصري يومياً مع القرارات التي تتخذها الحكومة برفع الأسعار، وارتفاع فواتير الكهرباء والغاز والمياه، بالإضافة إلى الارتفاع السنوي في أسعار الوقود الذي يشعل الأسعار، وعدم استقرار أسعار الأدوية الذي دمّر حياة الفقراء وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، مع عدم مراعاة ظروف وحالة المواطن المادية، فهناك مشاكل يومية وقصص وحكايات سيئة تمسّ القوت اليومي للمصريين.




من مظاهر زيادة حدة الفقر في مصر، انتشار التسول في المواصلات العامة والطرقات وأمام المساجد. لا تخلو قرية أو مدينة من المتسولين، وقد زادت حدّتها في القاهرة بشكل كبير مؤخراً. في دراسة حديثة أجراها قسم بحوث الجريمة بالمركز القومي للبحوث الجنائية، يتبيّن أنّ نسبة المتسولين في الشوارع مرتفعة، واحتل الأطفال العدد الأكبر، تليهم نسبة المسنين ثم النساء والشباب من 30 إلى 40 عاماً، معيدة ذلك إلى عدة أسباب، أهمها الفقر والتوقف عن العمل والحاجة إلى المال.

من المشاكل الاجتماعية الخطيرة في مصر زيادة أعداد الأطفال الفقراء، طبقاً لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (حكومي) فهناك 11 مليون طفل يعانون من الفقر متعدد الأبعاد، من بينهم نحو 3.5 ملايين طفل في سن 16- 17 عاماً خارج نظام التعليم، يعملون للإنفاق على أسرهم في ظروف صعبة من ضرب وإهانات، إذ تزايد التسرب المدرسي وممارسة العمل في سن صغيرة لإعالة الأسر، وقد زاد ذلك في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011. وتتنوع مهنهم ما بين الورش والبقالة والتجول في الشوارع للبيع في الباصات، ما يهدد سلامتهم وصحتهم. كذلك، فإنّ عدداً كبيراً منهم بلا مأوى، وهم "أطفال الشوارع". وما يقرب من 13.5 في المائة منهم محرومون من الصرف الصحي والمياه النقية والغذاء.

في سياق متصل، كشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عن ارتفاع معدل البطالة بين الشباب إلى نسبة 25.7 في المائة، بواقع 20.5 في المائة للذكور، و38.7 في المائة للإناث، وأشار إلى أنّ معدل البطالة بين الشباب الحاصلين على مؤهل جامعي سجل 38.3 في المائة. ألقت مشكلة البطالة بظلالها على جميع مناحي الحياة، وزادت حدة البطالة بين الشباب بعد إقفال مئات من شركات القطاع الخاص، نتيجة ظروف اقتصادية خارجة عن إرادتها.

بالإضافة إلى ذلك، تنتشر العشوائيات في محافظات مصر، وتحتل العاصمة القاهرة الصدارة في أعداد العشوائيات التي زادها الفقر، وتسببت في زيادة أعداد أطفال الشوارع، وأنواع غير مألوفة من الجرائم. ويعتبر بعض المحللين أنّ زحف الفقر إلى الطبقة الوسطى يهدد المجتمع بأسره، فنظام الأجور الجامد في مصر لا يتلاءم مع تغيرات الأسعار، وهو أحد أهم العوامل الرئيسية التي أفقرت الطبقة الوسطى. يؤكد هؤلاء أنّ الحكومات المصرية المتعاقبة فشلت في إيجاد حلول لمشاكل الفقر في مصر، وهو ما أدى إلى ازدياد أعدادهم باطراد، كما أنّ الظروف التي يعيشها الملايين من الفقراء في مصر لها أضرار خطيرة على حياتهم الصحية، فتزايدت أمراض الصداع والجلطات والسكري والضغط، والجهاز الهضمي والمفاصل، واضطرابات النوم، ومشاكل الكبد والكلى والسرطان، بالإضافة إلى أمراض نفسية خطيرة، وكلّ ذلك يتسبب في وفاة المئات سنوياً معظمهم من الشباب.



يؤكد الخبير الاقتصادي، الدكتور محمود الشريف، أنّ الحكومة ليس لديها برنامج اقتصادي واضح ومحدد لمواجهة "ملف الفقر"، موضحاً أنّ قرار الحكومة بـ"تعويم الجنيه أدى إلى زيادة عدد الفقراء، وتحمّلهم وحدهم زيادة في الأسعار وصلت إلى 200 في المائة، في الوقت الذي لم ترتفع فيه الرواتب الخاصة بهم، وهو ما قضى على الطبقة الوسطى، في حين كان يمكن تحميل الطبقة الغنية جزءاً من الأعباء أعلى من المواطن الفقير، وهو ما لم يحدث بالرغم من مطالب الخبراء الاقتصاديين بذلك قبل قرار تعويم الجنيه وارتفاع أسعار المواد النفطية والطاقة مؤخراً". ويوضح الشريف أنّ الوضع الحالي لا يدعو إلى التفاؤل كثيراً بشأن قدرة الحكومة على الحد من ارتفاع البطالة بين الشباب والحدّ من الفقر في مصر، وسط إصرارها على المزيد من رفع الدعم عن المواد النفطية والطاقة خلال الأشهر القليلة المقبلة، لمواجهة العجز في الموازنة والتضخم، وكذلك سعي الحكومة للتخلص من أكثر من ثلاثة ملايين موظف، تنفيذاً لخطة الإصلاح الاقتصادي التي وضعها صندوق النقد الدولي قبل الموافقة على إقراض مصر مؤخراً.

صور المعاناة اليومية للفقراء في مصر عديدة. يؤكد، عبد العليم محمد، أنّه بالرغم من بلوغه سن التقاعد ومرضه، لكنّه لا يستطيع البقاء في المنزل، بل يعمل في أحد المخابز لمواجهة تكاليف الحياة، مشيراً إلى أنّه يحاول تجهيز ابنته الكبرى التي تستعد للزواج. يضيف محمد الذي يعيش مع زوجته وبناته الثلاث، في شقة، مؤلفة من غرفتين وحمام صغير ومطبخ بمنطقة الخصوص بمحافظة القليوبية، أنّ راتب الحكومة التقاعدي لا يكفي ثمناً للخبز حتى، فهو 700 جنيه (39 دولاراً) ينفق أكثر من نصفه على العلاج. يقول: "نعتمد على أهل الخير في تدبير بعض شؤوننا اليومية خصوصاً في أيام الأعياد. اللحمة لا تعرف منزلنا إلاّ في المناسبات من أهل الخير، وباقي أيام العام نعتمد بالتعاون مع زوجتي وبناتي على هياكل الفراخ (عظام الدجاج) من الأسواق، وفي حال المرض إذا كان شديداً نتوجه إلى الصيدلية لأخذ شريط واحد من الدواء".




نظيرة محمد (ربة منزل) تقيم في شقة بالدور الأرضي بمنطقة صفط اللبن بمحافظة الجيزة مع زوجها وأولادها الثلاثة بإيجار شهري 300 جنيه (17 دولاراً)، ويعمل زوجها مياوماً: "يعمل يوماً ويتوقف عشرة لكنّه يتلقى راتب 400 جنيه (22.33 دولاراً) من وزارة الشؤون الاجتماعية... الحياة باتت غالية والأوضاع صعبة". هو ما دفع أولادها الثلاثة إلى ترك التعليم والعمل في الأسواق، مشيرة إلى أنّ في شقتها براداً قديماً، وتلفزيوناً صغيراً أهداه لها أحد أهل الخير، وبوتاغازاً صغيراً وبعض الأعداد المحدودة من أواني الطهو. تضيف السيدة الأربعينية، أنّها لكي تخفّف الحمل عن زوجها وأولادها، قررت أن تعمل في إحدى حضانات الأطفال. تلخص الحياة: "رضا والحمد لله... كلّ ما يكتبه علينا ربنا راضون به فهو المدبر".