فوضى

فوضى

26 يناير 2018
لا نتعرّف على وجوهنا (واثق الخزاعي/ Getty)
+ الخط -
ونعود إلى رتابةٍ وتفاصيل تبدأ في ساعةٍ وتنتهي عند أخرى. لا فوضى. كأنّ كوناً بأكمله يُنظّم من أجلنا. نستيقظ ونرتّب أسرّتنا، ونرتدي ثياباً مكوية، ونعدّ القهوة ونستمع إلى فيروز. ملل. فيروز أجمل حين لا نعتادها. والحياة مثل فيروز.

لا فوضى. ساعة تُضبط طوال الوقت. وأجسادنا قادرة على الانتقال من فوضى وأغطية هنا وهناك إلى أخرى مطويّة، تعلق فيها رائحة مسحوق الغسيل. وأمهاتنا يغضبن لأقلام كحل تُرمى على الطاولة أو على الأرض. وهذه لا تُحسب فوضى بل جزء من العالم المرتّب الذي نعود إليه بعد عطلٍ تنتهي بسرعة، كأنّها تتعب منّا، ومن حاجتنا إلى الفوضى، وإلى أغنيات تُسمّى "هابطة" في الصباح، واستعداد للنوم في أية لحظة، والأكل في أية لحظة. لا نتعرّف على وجوهنا في أوقات ثابتة، حتّى نشتاقها. وملامحنا تعتاد سكوناً صباحياً. وإن تحرّك العالم في الخارج، وحافظت الشمس على موعد إشراقها، نستطيع التخفي على سرير دافئ وتحت أغطية كثيرة. نحلم بعالم نريد ونبتعد عن لغات سئمناها.

وقبل العودة إلى الرتابة، نسترجع أنفسنا في أيامٍ لا تكلّفنا بمهام. تتركنا في تلك الوحدة التي نملؤها تأمّلات وأفكاراً وأحلاماً وخططاً، ثمّ نتمنّى ألّا تنتهي ونعود إلى أنفسٍ ليست لنا تماماً، بل هي ملكٌ لحياة أكبر تطلب الكثير منّا... نركض من لحظة إلى أخرى، ومن مهمّة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر، ثمّ ننام هرباً من نهارٍ بدا أطول من العادة. وكلّ يوم هو أطول من العادة. والحياة ليست بريئة هنا. تجعل أيامنا التي نختارها لأنفسنا قصيرة، لتطيل أياماً أخرى. ولا تعدل حتّى في تفصيل كهذا.

أحياناً، نعتقد أن أيّام الاجازة، بساعاتها القصيرة، ملكٌ لنا وحدنا. ونسعد لقدرتنا على إنجاز مهام كثيرة. ليست ملكاً خالصاً إذاً، لكنّنا لا نتذمّر. نصنع فوضى نفتقدها في تلك الأيام الطويلة. نعود إلى روحنا الأولى، وإلى أشيائنا التي نحبّ، وإلى طفولة غادرناها وقد أوهمنا أنّ الغد أجمل، وإلى كعبٍ عالٍ اكتشفنا أنه يقضي على عفويّتنا...

نترك ما بقي من طفولة في إجازاتنا القليلة، ونعود إليها وتعود إلينا. نتعانق طويلاً، ونبعث في غرفة ومنزل وحياة. ونُخرج فيروز من ذلك الصباح. ربّما نسمع تلك الأغنيات "الهابطة" ونرقص قبل أن تبدأ الأمهات في إعداد الطعام وقلي البصل، في وقت يهمّ آخرون بارتداء ثيابهم والذهاب إلى أعمالهم.

كأنّ الفوضى تُعيد الحياة إلى فطرة وطفولة، وإلى تلك الروائح الأولى في الحقول. لكنّ العطل تنتهي سريعاً.

المساهمون