تركة ثقيلة

تركة ثقيلة

25 اغسطس 2017
الماضي بشياطينه ولعناته حاضر أبداً (العربي الجديد)
+ الخط -

لم تُوفّر الحرب الأهليّة، أو مهما كان توصيفها، تلك البلدة اللبنانيّة الجبليّة. وسط غابات الصنوبر والمناخ المنعش صيفاً، كان في يوم ثمّة غالب وكان ثمّة مغلوب من بين أهلها. حصل ذلك قبل بضعة عقود.

الغالب وفقاً لأدبيّات الحرب، وتلك الأحداث خصوصاً، هو الذي نجح في تهجير جاره "الآخر" من أرضه وفرض سيطرته عليها، وإن لم يكن السبب طمعاً فيها. أمّا المغلوب فهو ذلك الآخر الذي هُجّر من بيته وأرضه مخلّفاً وراءه ممتلكات قليلة أو كثيرة، تَنعّم الغالب بها أو تخلّص منها، تبعاً للظروف. والمغلوب هو ذلك الذي حمل حقائبه، أو لم تُتَح له فرصة توضيبها حتى، ونزح أو لجأ إلى المجهول قبل أن يتمكّن من الاستقرار - مع التحفّظ على مفردة استقرار - في بقعة ما.

غالب ومغلوب. مصطلحان من أدبيّات الحرب، أيّ حرب كانت. وفي تلك الأحداث التي اختلف وما زال يختلف هؤلاء الذين شاركوا فيها على توصيفها، وكذلك فعل ويفعل المتفرّجون عليها وضحايا فصولها المتعدّدة، ربّما يكون الجميع مغلوباً. بعضهم عدّ ما جرى عقيماً. بعض آخر حاول التبرير وما زال يحاول. منهم من سعى وما زال إلى فتح صفحة جديدة، إذ "عفا الله عمّا مضى". وآخرون يقولون: "تنذكر وما تنعاد". لسنا هنا في وارد تناول تلك "الأحداث" التي وقعت قبل بضعة عقود ولا تحليلها، ليس فقط لأنّ رواياتها تختلف باختلاف الأطراف المتورّطة، بل لأنّ الأمر يبدو عقيماً.

ويحاول كثيرون المضيّ قدماً من مبدأ "عفا الله عمّا مضى"، غير أنّ التركة التي يجرجرونها - ولا سيّما هؤلاء الذين عدّهم البعض "غالبين" في يوم من الأيّام - تأتي ثقيلة. ولعلّ التركة الأشدّ ثقلاً هي التي تجرجرها ذريّة هؤلاء. تلك الذريّة التي ورثت الماضي بشياطينه ولعناته.

بعد عقود، عاد "مغلوبون" كثر - أو ذريّتهم - إلى تلك البلدة الجبليّة، ليستردّوا ما كان لهم في يوم. بعضهم حاول "الاستقرار" من جديد في الأرض الأمّ، في حين أنّ بعضاً آخر فضّل الاكتفاء ببعض الزيارات. لا ملامة. هؤلاء إمّا لم يتمكّنوا من التماهي من جديد مع تلك الأرض وقد تبدّلت ملامحها، وإمّا كانوا صغاراً حين هُجّروا منها، وإمّا لم يعرفوها في الأساس. تركة هؤلاء ثقيلة كذلك. هم يحملون ذكريات وقد حفظوا مَرويّات أقلّ ما يُقال فيها إنّها ليست ورديّة.

في تلك البلدة، عثرت على بيت جديد. لا جذور لها تربطها بتلك البقعة، غير أنّ موقعها الجغرافيّ لفتها فانتقلت إليها. مذ فعلت، أدركت ثقل التركة التي يجرجرها أهل البلدة، غالبين كانوا أو مغلوبين. الأمر واضح بيّن. الجميع يحاول جاهداً إمّا "التكفير" عن ذنب ما - سواءً ارتكبه أم لا - وإمّا التأكيد على "الصفح" وقلب صفحة الماضي القاتم. وتثقلهم التركات التي يجرجرونها.


المساهمون