أميركا ضد أميركا... الولايات المتحدة في حالة حرب

أميركا ضد أميركا... الولايات المتحدة في حالة حرب

16 اغسطس 2017
كراهية اليمين تتصاعد (تشيب سومودفيلا/ Getty)
+ الخط -
انتخاب دونالد ترامب رئيساً شكّل حدثاً مفصلياً في الولايات المتحدة الأميركية لم يتوقف عن حصد النتائج السلبية بين المواطنين. حالة السخط والمشاكل الفردية تتحول إلى معارك شعبية منظمة تحصد ضحايا، كما حصل قبل أيام في تشارلوتسفيل

بدا مشهد عشرات الرجال المسلحين في بلدة تشارلوتسفيل، بزيهم العسكري وأسلحتهم الرشاشة والسماعات على آذانهم للتواصل وإعطاء الأوامر لمئات من المتظاهرين اليمينيين، مثيراً للاستغراب والريبة. كانوا أشبه بجنود الجيش الأميركي وليسوا متظاهرين عاديين. أسلحتهم كانت أكثر تطوراً حتى من أسلحة عناصر الشرطة الذين بدوا حائرين في كيفية التعامل معهم ليلة يوم الجمعة الماضي حين حمل المحتجون اليمينيون المشاعل إلى حرم جامعة "فرجينيا" في تشارلوتسفيل، وفي تظاهرات الصباح التالي.

مكان تجمعهم ليلة الجمعة بقي سراً، حتى الساعات الأخيرة. وكانوا يتحركون بمجموعات صغيرة محاطين بالرجال الذين يحملون الأسلحة الهجومية ويتحركون معهم إلى أن وصلوا إلى نقطة تجمعهم النهائية.

في صباح اليوم التالي، السبت، تكرر المشهد على مرأى قوات الشرطة التي بدت أسلحتها كأسلحة لعب الأطفال مقارنة بهؤلاء، إذ تسمح ولاية فرجينيا بحمل السلاح الهجومي علناً في الأماكن العامة. تتراوح أعداد اليمينيين المتطرفين الذين حضروا تظاهرة السبت بما بين 1000 متظاهر و1500 بحسب مصادر إعلامية أميركية. في المقابل حضر مئات الأشخاص من اليسار ومن المعادين للفاشية والعنصرية في تظاهرة معادية لتلك التظاهرة. وبدأت الأطراف المختلفة بالاشتباك في ما بينها، وكانت الشرطة مرتبكة وغير مسيطرة على الوضع، بحسب تصريحات شهود عيان لوسائل إعلام أميركية.

أعلن حاكم ولاية فرجينيا حالة الطوارئ بعد اقتحام يميني متطرف تظاهرة المعادين للفاشية ودهس المتظاهرين بسيارته ما أدى إلى مقتل شابة وجرح عشرات. وهو إعلان يتيح إمكانية استدعاء الجيش الأميركي للتدخل إلى جانب قوات الشرطة.

بدا اليمين المتطرف على درجة عالية من التنظيم ومصمماً على بث الرعب في قلوب معاديه واستعراض قوته. وقد أثار انتشار السلاح بهذا الشكل مجدداً قضية أخرى وهي قضية "وباء السلاح" في الولايات المتحدة وسهولة شرائه في أغلب الولايات وحمله علناً. فهذه البلاد فيها أكثر من 300 مليون قطعة سلاح مرخصة في أيدي المدنيين، أي 89 قطعة لكلّ 100 أميركي، ناهيك عن السلاح غير المرخص.

ليست أحداث تشارلوتسفيل والتظاهرات التي شهدتها المدينة الجامعية الصغيرة وهجوم الشاب اليميني المتطرف إلا انعكاساً مصغراً لمفترق الطرقات الذي تقف أمامه حالياً الولايات المتحدة الأميركية. البلاد منقسمة على نفسها، تتقدم خطوة نحو المساواة لجميع سكانها ثم تتراجع خطوات، فيلغى على سبيل المثال نظام الفصل العنصري ثم تقرّ لائحة وقوانين الحقوق المدنية الخاصة بعام 1964، وينتخب عام 2008 باراك أوباما، أول رئيس أميركي أسود فترتين رئاسيتين، ثم ينتخب الرئيس دونالد ترامب الذي لم يتوقف عن الإدلاء بتصريحات عنصرية ضد الأميركيين من أصول أفريقية والمسلمين والمهاجرين المكسيكيين.

مع صعود ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة ازدادت الهجمات العنصرية ضد الأقليات، وازداد نشاط المنظمات اليمينية المتطرفة أو ما يسمى بالـ"آلت رايت"، وهي المنظمات التي أيّد قادتها ترامب في أكثر من مناسبة، ورأوا في انتخابه تحقيقاً لجزء لا بأس به من أيديولوجياتهم التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض الأوروبي. كذلك، تضم إدارة ترامب والدوائر القريبة عدة أشخاص ممن ينتمون إلى اليمين المتطرف وعلى رأسهم ستيف بانون، المعروف بنزعاته اللاسامية، وترويجه لرهاب الإسلام، والعداء للمهاجرين.

ليس فوز ترامب بالانتخابات وحده ما ساعد في تقوية شوكة الجماعات اليمينية والمحافظة والمتطرفة، بل لعب انتخاب أوباما قبل ذلك دوراً لا يستهان به، بحسب كثيرين. رأى أفراد تلك الجماعات اليمينية والمحافظة أنّ "بلدهم" يضيع من بين أيديهم، وأنّ هويتهم مهددة، وذلك على الرغم من أنّ البيض من أصول أوروبية يشكلون نحو 70 في المائة من سكان الولايات المتحدة. ومن الجدير بالذكر أنّ ترامب كان قد بدأ في تأجيج العنصرية واستغلالها منذ فوز أوباما بالرئاسة إذ ظل يشكك في أميركيته ويدّعي أنّ شهادة ميلاده مزوّرة.




احتاج الرئيس الأميركي أكثر من يومين، بعد حادثة تشارلوتسفيل، كي يسمي الجماعات المتطرفة بالاسم ويدين النازيين الجدد واليمين المتطرف وجماعات الـ"كوكلوكس كلان" التي كانت تاريخياً مسؤولة عن إعدام وحرق الكثير من الأميركيين من أصول أفريقية.
جاءت هذه الجماعات تحمل الأعلام الكونفدرالية ولافتات عنصرية عديدة للتظاهر ضد قرار بلدة تشارلوتسفيل بإزالة تمثال الجنرال روبرت لي، كما تماثيل وشعارات أخرى في المدينة، ترمز لفترات حكم عنصري أو شخصيات ساهمت بشكل لا لبس فيه في قتل واضطهاد الأقليات وعلى وجه التحديد الأميركيين من أصول أفريقية. وما زالت محاكم أميركية تتداول في قضية إزالة التمثال بعدما رفعت جماعات يمينية متطرفة دعوى قضائية لوقف ذلك.

لكن، ما يتوجب فعله هو النظر إلى أحداث تشارلوتسفيل ضمن سياق أوسع يضمّ الجدل حول تاريخ البلد وهويته أو هوياته. ولا يمكن فصل هذه الأحداث عن قضية أخرى شغلت الرأي العام الأميركي وهي قضية قرار ولاية ساوث كارولانيا بإزالة العلم الكونفدرالي الأميركي عن مبانيها العامة أو الرسمية عام 2015. وقد جاء قرار الولاية بعد قتل الشاب الأبيض العنصري ديلان روف تسعة أميركيين من أصول أفريقية داخل كنيسة في مدينة تشارلستون في نفس الولاية. وهي كنيسة كانت رمزاً ومعقلاً لنضال السود ضد العبودية والتفرقة العنصرية. وتبين أنّ قاتل المصلّين التسعة كان قد استخدم العلم في العديد من صوره كرمز لـ"تفوق العرق الأبيض".

الجنرال روبرت لي، الذي تظاهر اليمينيون المتطرفون ضد إزالة تمثاله الذي نصب عام 1924 في المدينة، كان قائداً للجيش الانفصالي الذي تشكل من اتحاد سبع ولايات جنوبية رفضت تحريم العبودية وأعلنت انفصالها عن الولايات الشمالية. وعقب ذلك شهدت الولايات المتحدة حرباً أهلية بين العامين 1861 و1865 قتل فيها أكثر من 600 ألف أميركي، وتمكنت فيها الولايات الشمالية من الانتصار على الولايات الجنوبية، لتحافظ بذلك على وحدة الولايات المتحدة، ولتمنع العبودية قانونياً -على الأقل- في جميع أنحاء البلاد. الجنرال روبرت لي، قاد تلك الجيوش الجنوبية حتى هزيمتها بين العامين 1862 و1865.

أما العلم الكونفدرالي الذي يحمله اليمينيون فتغيرت أشكاله بمرور الزمن، فهو لا يرمز فقط إلى الولايات الجنوبية التي طالبت بالانفصال قبل أكثر من مائة وخمسين عاماً، بل استخدم في فترات مختلفة من تاريخ الولايات المتحدة كرمز للمؤيدين للفصل العنصري بين البيض والسود وغيرهم من الأقليات، وضد حركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كينغ، عدا عن استخدام الـ"كوكلوكس كلان" له في اجتماعاتها ومناسباتها المختلفة.