مغتربون جزائريون ضحايا النظرة إليهم

مغتربون جزائريون ضحايا النظرة إليهم

16 اغسطس 2017
يعرفون جيداً معنى الوطن (فاروق باطيش/ فرانس برس)
+ الخط -
يشعر مغتربون جزائريون يمضون إجازة الصيف في بلادهم أنّ النظرة إليهم تختزلهم بما يفترض أنّهم يحملونه من مال

"في الجزائر نحن غرباء الروح، وخارج حدود بلادنا نحن غرباء الأجساد" هكذا يصف عبد القادر (49 عاماً) لـ"العربي الجديد" إجازة الصيف في بلده ووطنه وأرضه وبين أحبابه، لكنّه يتحسر وهو يتحدث للمرة الأولى عن تلك الآلام التي يحملها والأحلام التي أخذها معه عندما غادر الجزائر وعمره آنذاك لم يتجاوز 19 عاماً.

يشرح: "غادرنا البلاد بحرقة ونعود إليها كلّ عام بحرقتين. كانت الجزائر في أزمة سياسية كبرى، وكنت قد حصلت على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) فكان هدفي الخروج نحو أي بلد أوروبي لمتابعة الدراسة والعمل أيضاً". عمل عبد القادر في مطاعم باريس وبعض المدن المجاورة لها ليل نهار، فغسل الصحون في المطاعم لكسب قوت يومه وإكمال دراسته الجامعية في تخصص الطب. كان حلمه صعب المنال لكنّه في النهاية بات اليوم جراحاً كبيراً. مع ذلك، عندما تطأ قدماه أرض الجزائر يشعر أنّ الزمن توقف بسبب نظرة الآخرين إليه كمغترب أو "ميقري" باللهجة الجزائرية، أو كذلك "صاحب العط (المال)" التي تطلق على المغتربين الآتين عبر سفينة من بلد أوروبي حاملين معهم سياراتهم الفخمة. يتحسر من تلك الصفات اللصيقة به وبغيره ممن كافحوا لأجل بلوغ أحلامهم.

في الجزائر وفي فرنسا أو إيطاليا أو بريطانيا أو قطر أو ماليزيا أو الولايات المتحدة الأميركية أو كندا أو غيرها الهمّ واحد بالنسبة لجميع المغتربين وهو الحياة الكريمة. هذا ما يشير إليه معمّر المغترب في كندا منذ عشرين عاماً. يقول: "نحن لم نصنع مجدنا أو نكسب المال لنأتي إلى بلدنا كي نتفاخر به... في الغربة كلّ شيء محسوب بالفلس". يتابع: "عليك أن تتحمل برد كندا وغربتها أولاً قبل أن تتحدث إلينا عمّا في جعبتنا من أموال وعمّا لدينا من مكتسبات". يضيف أنّه بات يسأم من التعليقات التي يطلقها فلان وغيره عن المغتربين: "كأنّنا وجدنا مغارة علي بابا فجأة". يقول إنّه لم يجد الكنز بالرغم من كلّ التعب، بل ثابر بجهد وسعي متواصل للوصول إلى بعض الراحة والعيش الهنيء لا أكثر.

في القارة الأوروبية أو غيرها "يشتغل المغترب ليأكل، تمضي الأيام على هذه الحال حتى يجد نفسه في تابوت وينتهي الأمر". هكذا يصف نور الدين طورشي من منطقة جيجل، شرق الجزائر، ما خبره في غربته القسرية عقب سنوات التسعينيات، وهي "سنوات الدم والدموع التي علمتنا أن ننظر إلى نصف الكأس الممتلئ من دون الفارغ. الكدّ والنهوض باكراً للعمل من أجل الأمن والأمان" يشرح لـ"العربي الجديد". يتابع أنّه كان أستاذاً جامعياً في إحدى جامعات الشرق الجزائري، لكنّ لتأزم الأوضاع الأمنية في الجزائر، خلال العشرية السوداء، قرر المغادرة نحو بلد خليجي. هناك وجد نفسه أمام العمل والإبداع وإتمام البحوث العلمية، لكنّها بالنسبة له كانت "سنوات الغياب" عن أهله التي دفع ثمنها غالياً جداً. يعلّق: "هي غربة عن البلد واغتراب عن النفس. عندما أرجع إلى أرض الوطن أشعر أنّي أملك الدنيا وما فيها على الرغم من أنّي في الغربة عرفت أنّ للحياة قيمة ولجهدي وتضحياتي قيمة. عشت في بلد يفرض عليّ التأقلم مع عشرات الجنسيات. بلد مفتوح أمام التطور التكنولوجي والتقدم في كلّ شيء، وعليك أن تلحق بالركب وإلاّ بقيت في القاع".



"كثير من المغتربين يتألمون مرات ومرات. هم يعرفون جيداً معنى الوطن ويعرفون معنى أن تُعالج بثمن باهظ، وأن تتألم ولا تجد أحداً معك... إنّها الغربة بأدقّ تفاصيلها" بحسب سامية لمهاني (42 عاماً). هي التي غادرت الجزائر نحو بريطانيا، وتعمل اليوم هناك بمنصب مرموق، لكنّها تحنّ إلى أرض الوطن أو كما يقال في الجزائر "البلاد" التي تزورها كلّ سنة تقريباً وتعود إلى غربتها محملة بآلام كثيرة. تعلق: "هنا ينظرون إلينا كأنّنا نملك عصا سحرية، فنحن لم نغادر الجزائر إلاّ لتحسين معيشتنا، وإيجاد مناخ أفضل وفضاء أوسع للدراسة والعمل".

كثيرون غادروا الجزائر في أعقاب أحداث أكتوبر/ تشرين الأول 1988 (احتجاجات معيشية شعبية قمعها الجيش) يوم اختلط الحابل بالنابل، ودفعت الجزائر الثمن. غادر الآلاف من الكوادر الجامعات والمؤسسات نحو الخارج، منهم من فضّل الاستقرار نهائياً في الخارج، فلا يزور الوطن الأم أكثر من مرات قليلة لزيارة الأهل والأقارب في الإجازات الصيفية. أما من غادر الجزائر قبل تلك الفترة بعقود كاملة، فهم من الشريحة التي اختارت الغربة لتحسين أوضاعها المادية لتعود إليها كلّ مرة محمّلة بـ"أثقال الغربة وغياب الأهل، ليجدوا أنفسهم كبروا مرتين" مثلما يشرح البعض. يشعر هؤلاء أنّ عمرهم يساوي الضعفين فجأة كلما وطأت أقدامهم أرض الجزائر التي لا يمكنهم التخلي عنها مهما فعلوا، لكنّ تلك النظرة إليهم من الأهل والأصدقاء جعلتهم يكبرون سنوات أكثر. يقول البعض إنّ تحسن المعيشة في ديار الغربة بالنسبة لهم لا يساوي شيئاً أمام العودة الى بلدك وأنت تكتشف فقدان أعزاء عليك، وكسب الرزق والمال لا يساوي شيئاً أمام نظرة "طمع" من الآخرين وأمام "عدم تقدير أحد كلّ تعبك وغربتك".

المساهمون