العشائرية تحكم بعض مناطق تونس

العشائرية تحكم بعض مناطق تونس

09 يوليو 2017
آخر أحداث شهدتها محافظة سيدي بوزيد (فرانس برس)
+ الخط -

لم تختفِ العروشية من تونس، بحسب ما كان يظنّ البعض، ويتّضح الأمر من خلال الأحداث والمواجهات التي سُجّلت أخيراً في إطارها، والتي تمثّل تهديداً للمجتمع التونسي.

لم تنجح الأنظمة السابقة في تونس في القضاء على مفهوم القبلية والعشائرية، لا سيّما في معظم مناطق الجنوب التي شهدت، على مدى السنوات الست الأخيرة، خلافات عشائرية حول قطع أرض أو نتائج انتدابات أو نتيجة خلاف بسيط بين طفلين من عائلتين مختلفتين.

أحداث العنف التي شهدتها محافظة سيدي بوزيد، في يونيو/حزيران المنصرم، أعادت إلى الواجهة المشكلات العشائرية في بعض الجهات الداخلية، إذ ذهب ضحيتها قتيل وعشرات الجرحى، بعد خلاف بين عرشَين في منطقة بئر الحفي في المحافظة، على خلفية صراع بين شخصين، وقد أتى ذلك محركاً أساسياً لإثارة نعرة عروشية خلّفت إصابات طاولت كذلك قوات الأمن وألحقت أضراراً بالممتلكات.

وتلك الأحداث التي أثبتت ترسّخ العشائرية لدى بعض سكان المناطق الداخلية في تونس لم تكن الأولى خلال هذه السنة. فقد سبقتها أحداث دامية في مناطق أخرى، من قبيل العنف الذي وقع بين أهالي قرية القُلعة وحيّ العبادلة في محافظة دوز في الجنوب التونسي، قبل نحو شهرين، والذي أدّى إلى مقتل شخصَين وإصابة العشرات بجروح، بالإضافة إلى تسجيل 11 إصابة في صفوف أعوان الأمن. وكانت المناوشات قد انطلقت على خلفية تعرّض أحد أهالي منطقة القلعة إلى حادث مروري على طريق مطماطة جنوبيّ مدينة دوز. فقد وقعت مشادات كلامية بين شباب المنطقتَين، ليصل الأمر إلى تراشق بالحجارة واستعمال بنادق الصيد، ما دفع الوحدات الأمنية إلى استخدام الغاز المسيل للدموع، بهدف تفريق المتقاتلين. يُذكر أنّ شابا يُدعى أحمد بالطيب (17 عاماً) راح ضحية تلك الأحداث؛ إذ توفي متأثراً بجروحه. لكنّ الوفاة لم تنهِ الخلاف بين العرشَين، بل تجدّدت المواجهات وتبادل الطرفان العنف من خلال استعمال بنادق الصيد وإضرام النار في أشجار النخيل وقطع الطريق العام. فتدخّلت الوحدات الأمنيّة من جديد لتفرّقهم بالغاز المسيل للدموع. أسفر ذلك عن وفاة شاب ثانٍ ببندقية صيد.

ودفعت أحداث العنف جمعيات عدّة ومكوّنات من المجتمع المدني إلى تنظيم تحركات للتنديد بالخلافات العرقية والعشائرية وكذلك الدينية في تونس. وكانت منطقة المتلوي في الجنوب التونسي قد شهدت أوّل خلاف قبلي بعد الثورة بين "الجريدية" و"أولاد بو يحي"، أدّى إلى مقتل 13 شخصاً وجرح أكثر من 100 آخرين، وذلك على خلفية صدور نتائج مناظرة الالتحاق بشركة الفوسفات. تجدر الإشارة إلى أنّ العروشية تطاول بعض أحياء العاصمة كذلك، لتُسمّى تلك الأحياء بحسب المرجعيات العروشية لسكانها النازحين من المناطق الداخلية، من قبيل حيّ "الفراشيش" أو حيّ "أولاد ماجر".




في السياق، يقول الدكتور منصف وناس، المتخصص في علم الاجتماع، لـ "العربي الجديد"، إنّ "الصراعات بسبب قطعة أرض أو حول الحقّ في الانتداب، ليست إلا خلافات تستر وراءها أسباباً عميقة تتعلق برواسب ما زالت تتحكم في عقول بعض المجتمعات في تونس. فمنطق العروشية يدخل من ضمن العلاقة الوثيقة بين الأرض والعرض، والخلافات في معظمها نشبت من منطلق إيمان كلّ قبيلة بضرورة الحفاظ على مصالحها". يضيف وناس أنّ "الفراغ السياسي يؤدّي إلى ظهور الخصوصيات المحلية والاجتماعية والثقافية، فيما يبقى مفهوم المواطنة في تونس سطحياً من دون أن يتحوّل إلى قناعة وطنية مشتركة. وهو ما يجعل الأفراد يرتدّون في مرحلة الأزمات إلى الهياكل البدائية". ويشير إلى أنّ "البناء الوطني بقي هشاً ومحدوداً، ولم يصبح مشروعاً وطنياً عميقاً، بخلاف ما كنا نظنّ".

من جهته، يقول المؤرخ وأستاذ التاريخ السياسي عبد اللطيف الحناشي، إنّ "المجتمع التونسي كان عبر التاريخ كغيره من مجتمعات البلدان العربية، مجتمعاً قبلياً يقوم على نظام العشائر والقبائل المتفرقة في مناطق البلاد في معظمها". يضيف لـ "العربي الجديد" أنّ "الاستعمار حاول تكريسها وتأكيدها خدمة لمصالحه الاستراتيجية في مناطق عدّة، في حين سعت الحركة الوطنية التونسية إلى توظيف القبائل والعشائر لصالح القضية الوطنية في مواجهة الظاهرة الاستعمارية. لكنّ الدولة الوطنية الحديثة بعد الاستقلال حاولت القضاء على هذه الظاهرة، عبر اتخاذ إجراءات مختلفة من خلال تقوية سلطة الدولة وإخضاع تلك القبائل لها بطرق مختلفة، بهدف تكريس الاندماج الوطني". ويتابع الحناشي أنّ "الرئيس الحبيب بورقيبة سعى إلى محاربتها والقضاء عليها عبر خلطها وتشتيتها جهوياً، وذلك من أجل دمجها في صلب الدولة. لكن، على الرغم من ذلك، فإنّ الاندماج لم يتحقق بصورة كافية في تونس". ويشرح أنّ "النعرات والولاءات التي كانت قد ظهرت قبل الدولة عادت لتطفو من جديد على السطح من خلال تلك الأحداث، لكنّها لا تمثّل خطراً على المجتمع التونسي، إذ إنّ الصراع في بعض الأحياء والمناطق والجهات لم يكن معمّماً".

ويلفت الحناشي إلى أنّ "العروشية والقبلية ظهرتا مجدداً بعد الثورة، بهدف فضّ الخلافات بين الجماعات، أو كأداة في المجال السياسي (الانتخابات)، وذلك بسبب ضعف الدولة وتراخي أجهزتها، وضعف الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وعدم قدرتها على معالجة حدّة الأزمة الاقتصادية وكذلك الاجتماعية".