المحظرة الموريتانية تقاوم الزمن

المحظرة الموريتانية تقاوم الزمن

08 يوليو 2017
يتم الاعتماد على أسلوب الاستظهار في المحاظر (العربي الجديد)
+ الخط -

تحت الخيام ووسط الصحراء يلقّن علماء وشيوخ علوم اللغة والفقه والحساب طلاباً من مختلف المستويات الدراسية، في حلقات علمية، احتار الباحثون في إيجاد تسمية مناسبة لها، فمنهم من يطلق عليها "جامعات بدوية"، ومنهم من يسمّيها "الكتاتيب القرآنية المتخصصة"، بينما يطلق عليها الموريتانيون اسم "المحاظر".

على مدى قرون، حافظت المحظرة الموريتانية على خصوصيتها التي ميّزت نظام التعليم في البلاد، وحققت ما حققته أهم المدارس والجامعات الإسلامية. وحتى اليوم، ما زالت الأسماء الثقافية المعروفة تدين بالفضل لنشأتها في حضن المحظرة التي حافظت على فصاحة أجيال.

وكانت محاظر شنقيط صرحاً حضارياً ينشر الإسلام واللغة العربية في غرب أفريقيا، ومركزاً للإشعاع الثقافي والحياة العلمية في صحاري موريتانيا. كما استأثرت بأدوار سياسية واجتماعية هامة عبر مراحل تاريخ بلاد شنقيط، حيث كانت مركز السلطة السياسية بعد سقوط دولة المرابطين، أواخر القرن الخامس الهجري، واضطلع مشايخها بمهمة فض النزاعات بين القبائل وتنظيم حركة المقاومة ضد الاستعمار.

يؤكد الباحثون أن المحظرة حافظت على الهوية العربية والإسلامية للموريتانيين، في فترة تراجع المد الإسلامي وبداية الاستعمار، حيث دافعت بعلومها عن هوية البلاد ولغتها، وحافظت على الترابط والتجانس بين أفرادها، وهو ما جعل الموريتانيين اليوم أقل تأثراً بلغة وحضارة المستعمر الفرنسية مقارنة بالدول المغاربية.

ويرى البعض أن المحظرة تمكنت من دحض نظرية ابن خلدون التي ربطت بين التعليم والعمران، فقد كانت البادية موطن المحظرة حتى اليوم، ورغم ذلك استطاعت هذه الأخيرة تخريج علماء جابوا أصقاع العالم بعلمهم الذي شمل كافة نواحي الثقافة العربية والإسلامية، واستطاعت نشر الدين والعلم في البوادي والصحاري القاحلة.

وقد أعجب الكثير من الباحثين بخصائص المحظرة وطبيعة الحياة فيها وآداب الدراسة وتقاليدها ومناهج الدراسة وكيفية تحصيل مواردها. ولا تزال المحظرة تستخدم اللوح الخشبي والحبر في المراحل الدراسية الأولى، كما تعتمد على أدوات بسيطة وكتب قديمة، أما موادها فتشمل القرآن وأصول الفقه وعلوم الحديث والبلاغة والفلسفة والتاريخ والحساب.

وتم تكييف المحظرة لتناسب الظروف الاجتماعية والبيئية في الصحراء، وهو ما جعلها تستمر على مدى قرون. ورغم دعم وزارة التعليم لها تعتمد المحاظر بشكل رئيسي على التبرعات، حيث توجه أغلب أموال الزكاة في موريتانيا للمحاظر، خاصة التي تؤوي الطلاب وتتوفر على أعداد كبيرة من المدرسين من مختلف المستويات الدراسية. ويتميز أبناء المحظرة بالقدرة الفائقة على الحفظ والتذكر، بسبب اعتماد الشيوخ والمدرسين على أسلوب الاستظهار، حيث لا يتخرج الطالب إلا بعد حفظ أمهات المتون المعروفة في الثقافة العربية.




يقول المدرّس في محظرة زيد بن ثابت، الشيخ محمد الأمين ولد الحافظ، إن "المحظرة ما زالت مفضلة ككتاب ومدرسة وجامعة بالنسبة للكثير من الموريتانيين، حيث إن أبناء المحظرة معروفون بسعة علمهم وذكائهم وأخلاقهم، ما جعل العائلات تفضّل أن يقضي أبناؤها مرحلة من عمرهم في المحظرة على الأقل، إن لم يستطيعوا مواصلة تحصيلهم العلمي حتى التخرّج فيها". ويشير إلى أن طالب العلم المحظري "يأخذ من كل فروع العلم ليصبح في النهاية موسوعة معارف، فشيخ المحظرة حين يلقي درساً دينياً يمرّ على علوم اللغة والبلاغة والفلسفة ويختبر طلابه فيها".

وعن أسباب تسمية هذه الجامعات البدوية بـ"المحاظر" يقول ولد الحافظ إن "هناك اختلافاً في أسباب هذه التسمية، لكن أغلب المراجع التاريخية والفقهية تشير إلى أن معنى المحظرة هو الحظر أي المنع، بمعنى أن هذا المكان يُحظر فيه كل شيء غير العلم والحفظ، وهناك تفسير آخر هو أن المحظرة تجعل الطالب اليافع ينقطع عن أهله وعن أقربائه ويتفرغ لتحصيل العلم، ومن هنا سميت المحظرة لأنها حظرته عن زيارة أهله". ويشير إلى أن "حصاد المحظرة كبير بفضل شهرة العلماء الذين تخرجوا منها، أمثال سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، ومحمد يحيى الولاتي، ومحمد محمود بن التلاميد، وأحمد الأمين وغيرهم". وتواجه المحظرة في الوقت الحالي واقعاً صعباً بسبب منافسة النظام التربوي المعاصر لها، خاصة بعد أن فتحت مدارس التعليم الخاص فصولاً لحفظ القرآن والتجويد والبلاغة شبيهة بالمحاظر الصغيرة.

ورغم الرفض الشعبي لخطط تحديث المحاظر، إلا أن الحكومة تسعى إلى تطوير النظام التعليمي في المحاظر وإدخال وسائل متطورة عليه ومد جسور التفاعل بينه وبين التعليم النظامي، في الوقت الذي يطالب فيه الباحثون بالحفاظ على خصوصية المحاظر التي شكّلت عبر العصور حاضنة للهوية الإسلامية وللخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية للموريتانيين.

وبحسب إحصاءات رسمية يبلغ عدد المحاظر سبعة آلاف محظرة، تنقسم ما بين محاظر كبيرة وشهيرة تدرّس القرآن وعلوم الفقه وأصوله وعلوم الحديث والبلاغة والفلسفة والتاريخ والحساب والطب، وأخرى صغيرة تختص بتدريس القرآن فقط.

دلالات