تخفّف

تخفّف

26 يوليو 2017
هل خبرتَ ذلك الشعور الطيّب العارم؟ (وكيل كوسار/فرانس برس)
+ الخط -

بين صحو وخدر، يضجّ الرأس بكلّ تلك الأفكار. كأنّما هي تنتهك سكوناً مفترَضاً في مثل هذا التوقيت. منتصف الليل انقضى منذ أكثر من ساعتَين اثنتَين. تشعر بحاجة ملحّة إلى التخلّص من أفكارك المتسارعة تلك، غير أنّ الاجترار يتواتر متعاظماً. من غير الممكن الإفلات من ذلك الأرق المزمن. أمر مسلّم به. أمّا التخفّف من تلك الأفكار، ربّما يكون أكثر احتمالاً. لا بدّ من أن يكون كذلك، فهو حاجة ملحّة. يوميّاتنا مثقلة كفاية.

تعجز عن ذلك. تنظر حولك. العتمة لم تنجح في طمس معالم الغرفة الوسيعة. هناك الخزانة الكبيرة، ومن الجهة الأخرى تلك الصغيرة التي تكاد تلتصق بها كنبة غارت تحت كومة من الثياب. في إحدى الزوايا، مرآة بيضاويّة الشكل عُلّقت عليها أوشحة ملوّنة. هنا، بالقرب من السرير، طاولة خشبيّة واطئة تكدّست عليها كتب لم تبلغ نهاية أيّ منها بعد. يا ليت حريقاً يلتهم كلّ ذلك الأثاث وكلّ تلك المقتنيات. ربّما ننجح في التخفّف من ثقله.. من ثقلها. كلّ ما يحاوطنا يثقلنا، وقد حمل بعضاً من ماضٍ لنا. المرآة البيضاويّة تحفظ صوراً كثيرة، تجتاحنا رغبة في مسحها. كأنّما ذاكرتنا من ذاكرة تلك المرآة وإن لم يمضِ وقت طويل على اقتنائها. تَحوُّل كلّ شيء إلى رماد، لا بدّ من أن يتيح لنا الانطلاق من جديد.. خفافاً. نخشى البوح برغبتنا تلك. لا شكّ في أنّ كثيرين سوف يستهجنون الأمر، لا سيّما الأقربين.

كلّ ما حولنا يشجّعنا على التخفّف من كيلوغرامات أو غرامات زائدة تُثقل أبداننا.. الإعلانات باختلاف طبيعتها والسلع المصنّفة خفيفة والأزياء بمقاساتها المصغّرة واختصاصيّو التغذية المهووسون بالرشاقة والأطبّاء الخائفون على صحّتنا والأصدقاء الحريصون على مصلحتنا وغيرهم. لكن، ماذا عمّا يُثقل نفسيّاتنا وأرواحنا؟

مقتنياتنا الكثيرة تثقل نفسيّاتنا وأرواحنا تماماً كما تفعل تلك الأفكار التي نجترّها وتلك المشاعر التي نكبتها في دواخلنا وتلك الآلام التي لم تلتئم ندوبها بعد وتلك الذكريات التي نكدّسها في ذواتنا فتخنقنا. قد يكون فقدان الذاكرة هو الحلّ. لا بدّ من أن يتيح لنا - كذلك - الانطلاق من جديد.. خفافاً.

هل ثمّة عيب في الانطلاق من جديد من دون أحمال نجرجرها؟ تلك المرآة التي تحفظ صوراً كثيرة، وتلك الأوشحة التي يعيدنا كلّ واحد منها إلى لحظات كرب لم نفلح بعد في نسيانها أو بهجة ندرك أنّها لن تتكرّر، وذلك القلق الذي يرافقنا منذ زمن طويل مطبقاً على أنفاسنا، وتلك الخيبات والذكريات والمشاعر والندوب والكتب.

لا بدّ من أنّك تأرجحتَ في يوم. هل خبرتَ ذلك الشعور الطيّب العارم وأنتَ تحلّق في الهواء؟ هل أحسستَ بأنّك حرّ طليق في ذلك الفضاء الوسيع؟ لا بدّ من الانطلاق من جديد.. خفافاً.


المساهمون