"جنون" العراق... صدمات أفقدت الناس عقلها

"جنون" العراق... صدمات أفقدت الناس عقلها

15 يونيو 2017
ربّما عانت كثيراً (علي يوسف/ فرانس برس)
+ الخط -

ما عاشه ويعيشه العراق منذ عام 2003 حتى اليوم ليس سهلاً. عنف متواصل وقتل، ما جعل الناس في وضع نفسي صعب. وأدت الصدمات المتتالية إلى إصابة كثيرين باضطرابات عقلية. فهؤلاء فقدوا القدرة على التحمل.

دأب الحاج خزعل التميمي على إعداد طعام الغداء للشاب قيس الذي يُعرف بين سكان حيّ الشرطة في العاصمة العراقية بغداد، بـ "المجنون". والأخير يجد ضالّته في دار التميمي، حيث يرتاح ويتناول طعام الغداء. بعدها يكمل سيره اليومي المعتاد. بحسب التميمي، فإن قيس لم يكن مجنوناً، بل كان شاباً جميلاً ومرحاً، لكنّه اعتقل وعذّب في السجن، وهو ما أثّر عليه.

يقول التميمي، وهو رجل ستّيني، لـ "العربي الجديد"، إنّ قيس اعتقل عام 2007 مع شقيقه من قبل المليشيات. كان العنف الطائفي في أوجه حينذاك، وقد اتُّخذ قرار بإعدامهما من خلال إطلاق النار. قتل شقيقه لكن قيس نجا بأعجوبة، على الرغم من إصابته في صدره وبطنه. وكانا قد رميا في حاوية قمامة وعثرت عليهما الشرطة، لكنّ ما جرى كان قاسياً على قيس.

شهد العراق، خصوصاً العاصمة بغداد، عنفاً طائفيّاً بين عامي 2006 و2008، من خلال مليشيات مسلّحة، بعد غزو البلاد من قبل الولايات المتحدة الأميركية عام 2003، وإطاحة نظام الرئيس الراحل صدام حسين. التميمي يؤكد أنّ قيس، وعلى الرغم من أنه يعاني من اضطراب عقلي، فإنه لا يؤذي الآخرين. يمشي كل يوم مسافات طويلة، وقد جعل من بيته محطة استراحة له. يتناول الغداء وينطلق من جديد، ليعود مساء إلى منزل عائلته.

يلفت عراقيّون إلى ارتفاع نسبة الأشخاص الذين يعانون من أمراض عصبيّة خلال السنوات العشر الأخيرة، علماً أنّهم كانوا يتمتعون بصحة عقلية جيّدة. لكنّ ظروفهم الصعبة نتيجة الأوضاع الأمنية غير المستقرة، أدّت إلى إصابتهم بـأمراض نفسيّة وعقليّة. يقول خضر النعيمي إنّ جاره المتقاعد عُرف بالوقار وحسن التصرف، وكان يملك أرضاً زراعية يستثمرها. "عرفناه تاجراً، لكن تغيّر كلّ شيء قبل نحو ستة أعوام، ولم يعد كما عهدناه". ويوضح لـ "العربي الجديد" أن جاره لم يعد يتمتع بصحة عقلية. فما عاشه لا يمكن لإنسان تحمّله. ويشرح أن المليشيات خطفت حفيده الصغير، وكان عمره عشرة أعوام، وطالبته بدفع فدية في مقابل إطلاق سراح الطفل، وقد فعل من دون تردد، لكنه تسلم الولد جثة هامدة.




النعيمي يشير إلى أنّ "جاره كان متعلقاً بحفيده ويحبه بشكل لا يوصف، وحين رآه وقد غطت الدماء وجهه، صار يصرخ بقوة. ثم بدأ يتصرّف بغرابة، وبات أكثر ميلاً إلى الاختلاء بنفسه".
للعراقيات نصيب أيضاً من الأذى النفسي. ولا يبدو الأمر غريباً في ظلّ ما تعرّضت له شريحة واسعة من العائلات العراقية.

على مقربة من مسجد الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد، تجلس امرأة مسنّة على الرصيف، وقد عُرف هذا المكان بكثرة وجود المشرّدين وأولئك الذين يعانون من أمراض عقلية، والذين لا يفكرون سوى بتناول الطعام. ويوفّر المسجد ثلاث وجبات طعام للفقراء والمشردين يومياً. لذلك، يقصد كثيرون الأرصفة القريبة من المسجد، ويمضون يومهم هناك.

ويقول عبد الوهاب الشيخلي، والذي يملك محلّاً لبيع المواد الغذائية في السوق القريب من مسجد الجيلاني، إن عدد أولئك الذين يعانون من أمراض عصبية ارتفع، خصوصاً بعد عام 2003. يضيف لـ "العربي الجديد" أنّ هذه المنطقة باتت مقياساً. من خلالها، نعرف أنّ عددهم ارتفع أو نقص. ويشير الشيخلي الذي يبلغ من العمر 57 عاماً، إلى أنه ولد ويعيش في منطقة باب الشيخ التي يقع فيها مسجد الجيلاني، ويؤكد أن أولئك الذين يعانون من أمراض عقلية يأتون إلى هذه المنطقة من كافة المحافظات، منها إقليم كردستان، ومحافظات مختلفة من شمال ووسط وجنوب العراق.

ينفي الشيخلي علمه بكيفية مجيء هؤلاء من محافظات مختلفة إلى هذا المكان، لكن المكان آمن والمسجد يقدّم ثلاث وجبات في اليوم. كذلك، يأتي المحسنون إلى هذا المكان ويقدمون الطعام والنقود والملابس للمشردين والفقراء والمصابين باضطرابات عقلية.

ويُلاحظ انتشار النساء قرب مسجد الجيلاني. ويشير الشيخلي إلى امرأة تبدو في العقد السادس من العمر، شعرها أبيض وليس مرتباً، ترتدي ثياباً عدة فوق بعضها بعضاً. تارة تتحدث إلى دمية تحملها بيدها وهي تمشي، أو تتحدث إلى حائط أو عمود إنارة. يقول إنّها لم تكن موجودة قبل أكثر من ثلاثة أعوام، ويبدو أنها مرضت مؤخراً. يضيف أننا نعرف قصص بعض الأشخاص الذي كانوا أصحاء. لكن الصدمات المتتالية، بدءاً من عام 2006 وحتى اليوم، جعلتهم يعانون من أمراض عقلية. منذ هذا التاريخ، نشبت معارك طائفية وانتشرت أعمال القتل في البلاد. صحيح أن كثيرين عانوا من أزمات، إلّا أن بعضهم لم يتحمّل قوّتها، ما جعلهم يتحوّلون إلى مشردين أو مصابين بأمراض عقلية.

لـ "البروفسورة" أيضاً قصّة مؤثّرة، حتى بات يُشار إليها بـ "المجنونة"، وهي تردّد أنّها ليست كذلك. لا أحد يعلم من تكون هذه المرأة، إلا أنها تطلق على نفسها "البروفسورة". وغالباً ما تكون في المناطق التجارية، خصوصاً في حي الكرادة وسط بغداد، بحسب أسعد ناصر الذي يملك محلاً لبيع الأدوات الكهربائيّة. يقول ناصر لـ "العربي الجديد": "عرفنا البروفسورة منذ نحو عامين. ظهرت فجأة بهيئة رثة، ويبدو أنها لا تهتم بنظافتها. لكن حديثها يدل على أنها تحمل شهادة عليا. لديها معلومات واسعة ودقيقة في مجال الفيزياء والفلك. تدخل محلي وتطلب سيجارة، تدخنها وترحل". يضيف: "حين تحدثني عن موضوع علمي، أتأكد من خلال الاستعانة بالإنترنت أن معلوماتها دقيقة. عرفت من أحد الأشخاص أنها تحمل شهادة دكتوراه وقد أنجزت أبحاثاً عدة في مجال الفيزياء، إلا أنها تعرضت إلى صدمة بعدما قتلت المليشيتات ابنها".



إلى ذلك، تؤكّد عناصر في الأجهزة الأمنية العراقية أنها باتت تعرف المرضى النفسيين وأولئك الذين يعانون من أمراض عقلية، وتميّزهم عن آخرين يثيرون الريبة ليلاً، خصوصاً أن البلاد تعاني من وضع أمني غير مستقر، نتيجة وجود تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في مناطق عدة في البلاد، ووجود قوي للمليشيات التي ترتكب انتهاكات بحق مدنيين باستمرار، وهو ما توثقه منظمات حقوقية وإنسانية مختلفة، إضافة إلى ما يسرّب من مقاطع فيديو لعمليات تعذيب وقتل.

حسين الشويلي، وهو رجل أمن، يقول لـ "العربي الجديد" إن "بعض الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات عقلية يلجأون إلى الشوارع ليبيتوا فيها. نعرف معلومات عن بعضهم، ويعاني معظمهم من أمراض نفسية. في بعض الأحيان، نوصل أحدهم إلى بيت ذويه، إذا ما رأيناه يتسكع ليلاً".

الوضع الأمني المتردّي في العراق، من جرّاء وجود عناصر تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية تسيطر على مناطق في البلاد، عدا عن انتشار عدد منهم في مدن مختلفة، أدى إلى إصابة كثير من الناس بأمراض نفسية، وقد تصبح حالات بعضهم أكثر سوءاً، وقد تتطوّر إلى أمراض عقلية، بحسب متخصصين.

من جهة أخرى، يشرح أستاذ علم النفس زاهد الدليمي أنّ معظم الناس يظنون أنّ الأشخاص الذين يعانون أمراضاً نفسية حادة نتيجة تعرّضهم لصدمات مجانين. هؤلاء ربما سمعوا خبراً غير متوقع وقاسٍ، أو رأوا مشاهد فظيعة. يضيف لـ "العربي الجديد" أنه "باختصار، فإنّ عدداً كبيراً من العراقيين يعانون من اضطرابات نفسية من دون أن يُدركوا ذلك بالضرورة، في ظلّ كثرة المشاكل داخل الأسرة الواحدة وبين الأصدقاء والجيران والأزواج. ويتجلّى ذلك من خلال ردود أفعال غير منضبطة تصدر من قبل أشخاص نتيجة سوء فهم من آخرين وغيرها من الأسباب".

ويستطرد الدليمي أن "مشاهد العنف ورؤية الجثث، سواء بشكل مباشر أو عبر وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، زادت من نسب الأمراض النفسية. وفي حال تعرّض الأشخاص إلى مزيد من الأمراض النفسية قد تتطور حالتهم إلى مرحلة أخطر، وقد يصابون باضطرابات عقلية". ويوضح أن هذا أمر طبيعي بسبب ما يعيشه العراق منذ نحو 14 عاماً، فالقتل والتفجيرات والخطف والمشاهد الصعبة التي يراها الناس، لا بد أن تؤثّر سلباً على قوة الإنسان وصحته الجسدية والعقلية".