لقمة مازن الطيبة

لقمة مازن الطيبة

بيروت
F79ED122-582A-49B8-AE82-4B38F780EFB4
عصام سحمراني
صحافي لبناني، سكرتير تحرير مساعد في الصحيفة الورقية لموقع "العربي الجديد".
24 مايو 2017
+ الخط -
أن يجتمع كلّ هؤلاء الناس عند شاحنة تبيع المعجنات في شارع صغير هادئ في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، لكنّه ناجٍ من ازدحامها، فهو أمر لافت، قبل الانطلاق إلى أيّ حكم آخر.

الشاحنة البيضاء الصغيرة المركونة بالقرب من مسجد "خالد بن الوليد" في محلة ساقية الجنزير المحاذية لمحلة الروشة البحرية، يديرها مازن عيتاني. تحمل الشاحنة فرناً معدنياً لخبز المناقيش والفطائر، ولوحاً خشبياً لرقّ العجين وتجهيز المناقيش، وصناديق خشبية مسطحة للعجين المخمّر، بالإضافة إلى الكثير من المواد الأولية من لحوم وأجبان وغير ذلك ممّا يدخل في إعداد المناقيش. وإلى جانب الشاحنة برادان مجهزان بألواح الثلج لأنواع عديدة من المشروبات الغازية والعصير وكذلك المياه. يضاف إلى كلّ ذلك أسطوانتا غاز كبيرتان لتشغيل الفرن.

مازن -بعائلته البيروتية المعروفة- ابن لتلك المحلة بالذات. وبينما يبلغ من العمر واحداً وأربعين عاماً، فإنّ الشاحنة - الفرن مركونة في المكان من قبل ولادته. هو نفسه كان يشتري المناقيش من مالكها الراحل، في طفولته.

العمل، أو "المصلحة"، أسسه أبو طارق الغرزلي. هو الذي عمل فيها حتى سنوات قليلة خلت انتهت بوفاته. عيتاني عمل مع معلّمه الغرزلي فترات طويلة بدأت قبل أكثر من عشرين عاماً، ثم عمل مع ابنه من بعده، ليتسلّم المصلحة من الأخير قبل نحو عام. هذا الوضع جعله يرث الزبائن أيضاً، وهم زبائن عقود طويلة اعتادوا فيها المكان. إذاً، كان تحدياً كبيراً، لكنّ مازن نجح فيه بامتياز. فقد استمر الزبائن أنفسهم بالتدفق يومياً منذ الساعة الخامسة والنصف فجراً ساعة بدء العجن والخبز، حتى الساعة الثالثة عصراً، ساعة الهلاك الكامل لمازن بعد يوم عمل طويل جداً لا يرتاح فيه أبداً. ويوماً بعد آخر ازداد عدد الزبائن لديه، بل إنّ بعضهم جدد لا يعرفون غيره مديراً للمكان.

صورة أبو طارق ما زالت معلقة في مكان بارز على الشاحنة تحت خيمة مبتكرة تحمي الزبائن من الأمطار. هي لفتة وفاء من مازن إلى الراحل. يعلّق أحدهم أنّ مازن لا يضع صور زعماء وسياسيين وهذا جيد إذ إنّ زبائنه من مختلف المشارب السياسية.

بالفعل، فإنّ معظم الآتين إلى المكان هم من سائقي التاكسي، الذين يجوبون كلّ الأماكن، يتوقفون هنا عشر دقائق أو أكثر، يتزودون هم بـ"الوقود" هذه المرة، قبل العودة إلى الطرقات وازدحامها والتوتر المرافق لمهنتهم. لا يقتصر الأمر على السائقين فهناك سيارات فخمة يتوقف أصحابها هناك، يأتي بعضهم من مناطق أبعد كالحمراء مثلاً التي تتميز بكثير من الأفران والمطاعم الكبيرة والصغيرة والمتعددة القوائم.

يبيع مازن مناقيش الصعتر، والجبنة، والكوكتيل (صعتر وجبنة)، والبندورة بالبصل، والكشك، واللحمة، والكفتة، والسجق، يأتي بموادها الأولية من أماكن موثوقة، بالإضافة إلى السبانخ والقاورما (اللحم المحفوظ بالدهن، وهو من المواد الغذائية الأساسية في المناطق اللبنانية الباردة، خصوصاً في الماضي) اللذين يحضّرهما منزلياً.



لكن، ما السرّ في لقمة مازن الشهية التي يقصده من أجلها كثيرون؟ يقول أحدهم إنّ "العجينة ليس لها مثيل في أيّ مكان آخر". يؤكد أنّ متجره الذي يأتي منه إلى جانب أحد الأفران الكبرى في المنطقة، وبذلك يقارن دائماً بين تلك المحلات ومازن، ويرجّح دائماً كفة الأخير.
شخص آخر يعيد السبب إلى "الألفة" فهو ككثيرين غيره يمضي يومه بعيداً عن المنزل وما فيه من طعام. هنا يعتبر نفسه في المنزل خصوصاً مع الطريقة التي ورثها مازن وهي تحضير أوعية عديدة يخدم الزبائن أنفسهم بأنفسهم عبرها، إذ يحتوي وعاء على خضر من بندورة ونعناع وخيار، ووعاء على مخلل الخيار والمقتا واللفت، ووعاء على الشطّة (خلطة فلفل حار وتوابل)، بالإضافة إلى الليمون الحامض والملح والبهارات المتنوعة. يأخذ الزبون منقوشته ويتفنن في تجهيزها كما يحلو له.

شخص ثالث يعيد الأمر ببساطة إلى وجود بعض الأصناف النادرة لدى مازن، ومن ذلك مناقيش القاورما، وسندويشات البيض المسلوق. فهذا الشاب مثلاً يأخذ استراحة قصيرة من محاضراته في الجامعة القريبة، من أجل صلاة الظهر، وبعد الصلاة سندويش بيض مسلوق يحضّره بنفسه. كثيرون هم زبائن مازن من المصلين في المسجد المجاور خصوصاً بعد صلاة الجمعة وخطبتها.

لكنّ مازن، القليل الكلام، الذي يتعاطى مع الزبائن بكلّ لباقة سواء في أخذ طلباتهم أو خدمتهم أو محاسبتهم أو حتى في تحية المارة، يدلي لـ"العربي الجديد" بسرّ مهنته، الذي يبدو مكشوفاً أكثر بكثير من كونه سرّاً: "ببساطة، أنا أحضّر كلّ شيء أمام عينيّ الزبون. لا شيء مخبّأ هنا. وعلى الرغم من أنّه كوخ لا أكثر فهو نظيف دائماً".

بذلك، تجتمع عناصر عديدة بعضها نابع من تراث المكان، وبعضها من مواد التحضير، وبعضها من مازن، وبعضها أيضاً من الزبائن أنفسهم، لتجعل من مجرد شاحنة بيضاء مركونة في أحد الشوارع الصغيرة مكاناً مقصوداً لجياع يختارون "اللقمة الطيّبة" بعناية كبيرة.

دلالات

ذات صلة

الصورة
بات شغوفاً بعمله (العربي الجديد)

مجتمع

أراد ابن جنوب لبنان محمد نعمان نصيف التغلب على الوجع الذي سببته قذائف وشظايا العدو الإسرائيلي على مدى أعوام طويلة فحولها إلى تحف فنية.
الصورة
وقفة تضامن مع جنوب أفريقيا في لبنان 1 (سارة مطر)

مجتمع

على وقع هتافات مناصرة للقضية الفلسطينية ومندّدة بحرب الإبادة التي تشنّها قوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة، كانت وقفة أمام قنصلية جنوب أفريقيا في بيروت.
الصورة
تضررت مخيمات النازحين السوريين في لبنان من الأمطار الغزيرة (فيسبوك/الدفاع المدني)

مجتمع

أغرقت الأمطار التي يشهدها لبنان والتي اشتدت أول من أمس (السبت)، العديد من مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان، لا سيما تلك الواقعة في المناطق المنخفضة.
الصورة
اغتيال صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبية

سياسة

وقع، اليوم الثلاثاء، انفجار في ضاحية بيروت الجنوبية، ليُعلن لاحقًا اغتيال القيادي في حركة "حماس" صالح العاروري واثنين من قادة كتائب عز الدين القسّام.