مصباح شبانه... مقدسي وزّع صحفاً على مدى 66 عاماً

مصباح شبانه... مقدسي وزّع صحفاً على مدى 66 عاماً

21 ابريل 2017
ما زال في مكانه (العربي الجديد)
+ الخط -
يقول مصباح شبانه إنه عمل نحو 66 عاماً في توزيع الصحف والمجلات. ومع التوزيع، تحول إلى ذاكرة القدس، هو الذي واكب مراحل كثيرة، ما زال يذكرها

في ركنه الصغير، ملتصقاً بجدار مدرسة الرشيديّة قرب أسوار البلدة القديمة في القدس، ما زال المسن المقدسي مصباح شبانه يحافظ على مكانه منذ أكثر من ستة وستين عاماً. في هذه الزاوية، يبيع الصحف والمجلات المحلية والعربية. لم يتغيّر ولم يتبدّل رغم مرور الأيام والسنوات.

رحل كثيرون من الذين عرفهم في إطار عمله بائعاً وموزّع صحف. رحل أيضاً زميلاه في المهنة عمير ونوح. كان الأوّل قد اتخذ ركناً له قرب مبنى كولومبيا الشهير إلى الغرب من باب العمود، أحد أشهر أبواب البلدة القديمة من القدس. أما الثاني، فاختار شارع صلاح الدين الشهير ليبقى فيه عقوداً. هذا الشارع شهد أحداثاً كثيرة ترتبط بتاريخ القدس، إضافة إلى انتفاضتي الأقصى وهبة القدس. أيضاً، فيه مقبرة المجاهدين حيث يرقد عدد من شهداء الهبة الأخيرة، من بينهم بهاء عليان.

بداية، لم يرغب مصباح شبانه في الحديث عن أحواله وأحوال مدينته، هو الذي ناضل في سبيل لقمة العيش، والصمود في القدس. فالاستمرار في هذه المدينة التي عانت من جراء طمع الأجانب فيها، ثم سقوطها في يد الاحتلال الإسرائيلي من دون قتال، استوجب إرادة قوم قلّ نظيرهم.

بدأ شبانه عمله بائعاً وموزّعاً للصحف في سن الحادية عشرة، بعدما توفي والده عبد المحسن شبانه. عمل في ركن في باب الخليل، أحد أبواب البلدة القديمة من القدس، وصمد فيها أحد عشر عاماً، ثم انتقل إلى مقره الحالي في شارع الرشيد قرب مدرسة الرشيدية المقابلة لسور القدس العتيقة، ليبدأ مسيرة امتدت نحو ستة وستين عاماً.

في جعبته ذكريات كثيرة عن صحف فلسطين والدفاع والجهاد. كان بعضها يصدر في مدينة يافا قبل أن تصدر في القدس. يذكر أيضاً الكواكب وروز اليوسف المصرية والعربي الكويتية والسينما والناس وغيرها. كان شاهداً على اهتمام المواطنين بالقراءة، وقد تميزت مدينة القدس بحراك إعلامي وثقافي وأدبي وفني. إلا أن هذا الأمر اختلف خلال العقدين الأخيرين، في ظل التطور التكنولوجي وظهور وسائل التواصل الاجتماعي. يقول إن مطالعة صحيفة أو كتاب أو مجلة باتت أمراً نادراً.



يشير إلى أنّ القدس كانت مركزاً أدبياً وثقافياً وفنياً، وكانت لصحف الداخل مثل "الاتحاد"، و"فصل المقال"، ومجلات "الفجر" و"الشراع" و"العودة" ثقلها، بالإضافة إلى نقابة الصحافيين التي كانت تسمى سابقاً رابطة الصحافيين العرب.

يذكر شبانه عمله موزّعاً لدى صحيفتي "الدفاع" و"فلسطين"، اللتين كانتا تصدران في يافا. وكان سليم الشريف، ومحمود أبو الزلف، ومحمود يعيش، من بين أبرز العاملين فيهما. لاحقاً، اشترى أبو الزلف ويعيش صحيفة الدفاع، وانتقلا إلى القدس، وأصبح اسم الصحيفة "الجهاد"، وقد اتخذت مقراً مؤقتاً في مبنى صغير تابع لدير السريان. ثم انتقلت إلى موقع قريب من باب الملك فيصل، أحد أبواب المسجد الأقصى، وحاز عمه عبد المحسن شبانه على وكالة توزيع الصحيفة، ثم تسلم المهمة ابناه إبراهيم ويحيى. يذكر شبانة أنّه بعد وفاة والده، بدأ العمل في التوزيع إلى جوار ابني عمه، ولم يكن يتجاوز حينها 11 عاماً.


خلال عمله موزّعاً في صحيفتي الدفاع والجهاد، كان لشبانه مكانته. وكان يتقاضى 12 ديناراً إضافياً من كل صحيفة، عدا نصيبه من التوزيع. يقول: "كان هذا المبلغ في ذلك الوقت مثل راتب وزير".

أيضاً، عمل شبانه مع زميل يدعى خضر الأسمر في توزيع صحيفة يهودية حملت اسم "بالستاين بوست". كانا يذهبان إلى مطبعة الصحيفة في القدس الغربية ويوزعانها في الساحات العامة وغيرها. وبعد الاحتلال الإسرائيلي للمدينة، بات اسم الصحيفة "جيروزالم بوست"، وما زالت تحمل هذا الاسم حتى اليوم. استمر في توزيعها بعد عام 1967، وكانت تلقى اهتماماً من متابعيها سواء الأجانب أو رؤساء تحرير الصحف الفلسطينية المحلية.

عربياً، أبرز الصحف والمجلات التي كانت تصل إلى القدس، ويوزعها شبانه، هي: الكواكب، السينما والناس، وروز اليوسف المصرية، إضافة إلى مجلة العربي الكويتية. كان لهذه الصحف قراء كثيرون، ومن مختلف الفئات الاجتماعية. ويلفت إلى أن المجلات الفنية حظيت باهتمام الشباب، خصوصاً الفتيات. أما "روز اليوسف" و"العربي"، فقد اهتمّ بهما المثقفون والسياسيون والإعلاميون.

لم تكن حياة شبانه سهلة، فقد عانى طويلاً وما زال، خصوصاً بعد تراجع عدد القراء والمهتمين بالمطالعة. ويعزو سبب هذا التراجع إلى الثورة المعلوماتية وظهور مواقع التواصل الاجتماعي. يذكر أنه كان يقرأ كل الصحف والمجلات، وقد تعلّم من الكتاتيب في الخليل أصول القراءة والكتابة، على يد الشيخ محمد رشاد الشريف، قبل أن ينتقل إلى القدس ليلتحق بمدرسة في حارة الناس. وكان مدرّس اللغة العربية يحمل عصا طويلة، وقبل دخول تلاميذه إلى الصف، كان يردّد وإياهم نشيد: "يا علمنا يا علم يا علم العرب. أشرقي وأخفقي في الأفق الأزرق. يا علمنا يا علم".

لم تخل حياة شبانة من الكفاح. حرص على تربية أبنائه "أحسن تربية"، وتعليمهم ليصلوا إلى "أعلى مراتب العلم". يفتخر ببناته العشر، لافتاً إلى أنهن يعملن في التدريس في مدارس القدس المختلفة. يعدّ هذا الرجل شاهداً على تاريخ القدس. يقول إنّ هذه المدينة سلّمت تسليماً، إذ لم يكن هناك قتال حقيقي للدفاع عنها ومنع سقوطها. خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، ظل صامداً في ركنه، رغم الغاز المسيل للدموع خلال مواجهات جنود الاحتلال مع شبان القدس القديمة. مع ذلك، لم يبرح مكانه.