أطفال فلسطينيون يختبرون القيود

أطفال فلسطينيون يختبرون القيود

17 ابريل 2017
الاحتلال يواصل انتهاكاته بحق الأطفال (سعيد خطيب/ فرانس برس)
+ الخط -
في سجون الاحتلال آلاف الأسرى الفلسطينيين، مئات من هؤلاء أطفال أخذوا عنوة من أهلهم وتركوا تحت رحمة سجانين يحرمونهم من طفولتهم ويخنقون أحلامهم ولا يبقون لهم سوى حلم الحرية

تنقلب الحياة رأساً على عقب، وتتغير الاهتمامات في ليلة واحدة عندما يجد الفلسطيني نفسه مكبل اليدين والقدمين، معتقلاً لدى سلطات الاحتلال الصهيوني، فما بالك إذا كان طفلاً لم يبلغ الثامنة عشرة بعد، بأحلام وأفكار ما زالت قيد الولادة؟ في سجون الاحتلال أقسام خاصة يعيش فيها مئات من الفتية الفلسطينيين الذين أبعدوا عن أهلهم قسراً. تروي تجربتهم العديد من القصص عن معاناة وألم عاشوه وحدهم.

في الأسر تغيرت حياة وليد مرسي من قرية بورين، شمال الضفة الغربية المحتلة. الفتى الفلسطيني كان يقبل على الحياة بروح مليئة بالنشاط عندما اختطفه المحتل في عمر 16 عاماً من حضن أمه وأبيه وأشقائه في منزله عند منتصف الليل. لم يعتد أن يصحو من نومه ويرتب فراشه، بل كان يرتدي ملابسه مسرعاً ويخرج لمقابلة رفاقه في تخطيطهم لنزهة جديدة مليئة بالمغامرات، بعدها يرمي ملابسه المتسخة ويرتدي ملابس نظيفة في اليوم التالي. هو تفصيل بسيط ربما لكنّه تغير مع كلّ شيء آخر. في المعتقل بات مسؤولاً عن ترتيب فراشه، وغسل ملابسه بيديه وترتيبها بشكل جيد، وغسل أواني الطعام، وتنظيف غرفة القسم الذي يعيش فيه.

يقول وليد لـ"العربي الجديد": "دخلت السجن في ليلة مظلمة. لم أعرف فيها غير أنّي معتقل مع صديقي قيس عيد الذي يماثلني عمراً. كانت الأيام الأولى قاسية جداً بعيداً عن أمي وأبي، لكننا بدأنا بعد الشهر الأول بالتأقلم مع حياة السجن في قسم الأشبال". عيدان أمضى وليد ورفيقه قيس داخل المعتقل خلال عام كامل هناك، عيد الفطر وعيد الأضحى. يستذكر وليد عندما وقف قيس عند باب الغرفة في السجن صباح يوم العيد، وغنى أغنية "يا يمّا لو جاني العيد" للفنان أبو عرب، كاملة مع موال حزين، وسمعه الأسرى في 12 غرفة في "قسم 3" بسجن "مجدو" المركزي. يعلّق الأسير المحرر وليد: "تفاعل كلّ الأشبال في السجن مع الأغنية، وبكى بعضهم على لحنها، وهم يتذكرون أهلهم البعيدين، أعيادهم الماضية، وعيديّتهم من أولياء أمورهم، والألعاب التي كانوا يشترونها والنزهات مع العائلة والأصحاب". يضيف: "لا أستطيع أن أنسى كيف سخر ضابط الوحدة الذي حضر صبيحة العيد ليعدّ الأسرى... قال لنا: وين أواعيكم (ملابسكم) الجديدة عشان العيد، وين بدكم تطلعو طشة (نزهة) اليوم، وين الألعاب والجرافة والبلالين (بالونات)، ما بدكم تفرحوا بالعيد؟".

محمد دبس يميناً، عمر اشتيّ وسطاً، وليد مرسي يساراً (العربي الجديد)



كان قيس عمران مهتماً بالموسيقى قبل الاعتقال. كان يتدرب على العزف مع أحد الفنانين الشعبيين في قريته، وبعد التأقلم مع حياة الأسر خصص فقرة يومية جمع فيها الأسرى الأشبال وبدأ الغناء لهم. ولحبّ قيس الموسيقى، حوّل أغطية أواني الطعام والملاعق وعدداً من الزجاجات البلاستيكية الفارغة إلى "درامز" عزف عليه مع الغناء، إذ كان يحب هذه الآلة الموسيقية، واستغل ذلك للهو وتسلية الأسرى.

تعلم وليد النحت على حجارة الدومينو وبذور الأفوكادو، وكانت العملية تستغرق من أربع إلى خمس ساعات. كان الأسرى الأشبال ينحتون مثل هذه المقتنيات الصغيرة، ليرسم عليها من يجيدون ذلك، ويعدّونها مع القلائد المصنوعة يدوياً أيضاً، ليرسلوها إلى أهلهم.

على الرغم من كلّ الأمور التي شغل الأشبال أنفسهم بها، كحضور حصص التعليم من معلمات يدخلن السجن خصيصاً لذلك، ومتابعة المسلسلات عبر التلفزيون الذي لا يضم أكثر من 10 قنوات، وصنع القلائد، والنحت، إلا أنّهم عاشوا وقت فراغ كبيراً أجبرهم على العودة في أذهانهم إلى ما هو خارج الأسوار والقيود حيث الأهل والأحبة.

في قسم الأشبال بسجن "عوفر" غرب رام الله، قضى محمد دبس (16 عاماً) وهو من مخيم عايدة للاجئين الفلسطينيين شمال مدينة بيت لحم، 11 شهراً. يعجز عن وصف حياة السجن، ويصب جام غضبه على السجان الذي كان يجبره على فعل أشياء لا يحبها. ما صعّب حياته هناك أنّه كان مجبراً على الاستيقاظ عند الخامسة فجراً من أجل عملية إحصاء الأسرى. يصف الأمر لـ"العربي الجديد" بالقاسي جداً لا سيما في فصل الشتاء وفي أوقات البرد القارس.

يتابع دبس : "اللعب قليل جداً، والحياة الجماعية مقيدة. هناك بعض الفترات الترفيهية لا سيما يوم الجمعة حيث يمكننا لعب التنس وكرة الطائرة. وقت الفراغ يؤثر نفسياً على بعض الأطفال الذين قد يلجأون إلى الصراخ لتخفيف الكبت والضغط عن أنفسهم". يصف غرفة السجن: "في كلّ غرفة 10 أطفال، صديقهم الوحيد السقف. غالباً ما تجد الطفل إذا ما أراد الترفيه عن نفسه يلقي بنفسه على فراشه، ثم يستعيد ذكرياته خارج جدران السجن، حين كان حراً يلعب مع الأطفال في الحي، ويتناول الطعام الذي يحب، ويمارس حياته وفق قوانين والديه لا السجّان الذي لا يتحدث لغته".


الطفل جميل ملش (16 عاماً) تأقلم مع حياة السجن في "عوفر" حيث أمضى خمسة أشهر، كونه لم يكن مهتماً باللعب. حاول أن يقتل وقت فراغه في كسر قواعد السجن وبناء علاقات مع الأطفال الأسرى هناك. الطعام هناك لم يكن يعجبه، أما بقية الإجراءات فقد تأقلم معها. وقت الفراغ كان يمضيه تحت رشاش الماء، أو وحيداً تحت سقف الغرفة، ولم يكن مهتماً ببعض الألعاب المتاحة، لكنّه كان يحلم بدراجته التي تركها خلفه في زقاق مخيم عايدة، وكذلك الحرية التي كانت تنتظره: "كلّ طفل في عوفر حلمه الوحيد العودة إلى المنزل... لا أحد يهتم باللعب فالجميع يريد الخروج".

من جهته، تحرر عمر اشتيّ من سجون الاحتلال قبل بضعة شهور. يحاول أن يعود إلى حياته الطبيعية بعد نحو عام من الأسر. وقد تحرر أيضاً من حبسه المنزلي قبل أيام فقط، بموجب أمر الإفراج عنه الذي قررته محكمة صهيونية. لم يتجاوز عمره السابعة عشرة، وقد اعتقل بتهمة رشق القطار الإسرائيلي الخفيف الذي يخترق بلدة شعفاط، شمال القدس، وهي تهمة نفاها عمر وأصر على نفيه لها، لكنّه اعتقل على الرغم من مرضه بالسكري. مرض قاومه عمر بكبرياء في سجنه على الرغم من حاجته الماسة إلى الدواء. يوضح لـ"العربي الجديد": "كنت أتبع برنامجاً يومياً كان متاحاً لنا في سجن مجدو، فبعد الاستيقاظ باكراً نستحم، وننظف أسناننا ثم نمارس تمارين لياقة بدنية. الوقت كان محدداً لكننا لم نضيّع دقيقة واحدة منه". يتابع: "كان لديّ وقت للقراءة، وكانت لنا بعض الجلسات والنقاشات في أمور تهمنا شخصياً، فنتحدث عن أحلامنا وطموحاتنا. وعلى هذا المنوال من الحياة غير الطبيعية بين أربعة جدران كنا نعيش، وكنا نفرح بمواعيد الزيارة، ونرسل مع أمهاتنا وآبائنا التحية والسلام لمن تركناهم خلفنا من الأصدقاء والأهل".

حين زج بالطفل عمر في السجن كان تلميذاً في الصف العاشر في مدرسة "الوعد الصادق" في بيت حنينا، شمال القدس، وكان يتبع برنامجاً يومياً من الدراسة والعودة إلى البيت، فيستريح ثم يتناول طعامه ويبدأ بعد ذلك مراجعة دروسه. "كل شيء اضطرب" كما يقول، إذ لم يعد بإمكانه العودة إلى مقاعد الدراسة في مدرسته، فحين حاول الانتظام فيها مجدداً اشترطت إدارة المدرسة أن يعيد صفه العاشر، لهذا قرر ترك المدرسة والتعليم ليلتحق بعمله في محل لبيع الملابس في بلدة القدس القديمة.

خارج السجن، يتابع عمر الاستيقاظ الباكر والاهتمام بالنظافة واللياقة، كما يعود إلى لعبته الرياضية المفضلة، كرة القدم يلعبها بعد انتهاء العمل، وهو معروف بمهارته فيها بين أقرانه. وما يتمناه الآن، وهو الذي يتلقى علاجاً يومياً من مرض السكري، أن تستقر حالته الصحية. أما السجن فيعتبره مرحلة مهمة من حياته، فيها التقى بأقرانه من أشبال القدس، ولكلّ منهم حكايته التي لا تختلف كثيراً عن حكاية عمر، ولا عن أحلامه في أن يعيش حياة طبيعية.

المساهمون