المتقاعدون في الجزائر... موت بعد حياة

المتقاعدون في الجزائر... موت بعد حياة

22 مارس 2017
أغلب المتقاعدين يمرون بفترة عصيبة (العربي الجديد)
+ الخط -

هل كان يعلم الجزائري، محمد السعيد تيجاني (52 سنة) أنه بعد تقاعده سيجد نفسه في حالة اكتئاب وانطواء رهيبة دامت ستة أشهر؟ هل كان التقاعد بالنسبة له يعني تعباً من نوع آخر؟ وهل كان الهروب من العمل الإداري الذي قضى فيه ما يزيد عن 30 عاماً، هو هروب من مشكلة أخرى أكبر من روتين الإدارة؟

هي قصة أحد الموظفين في إدارة من مؤسسة الضمان الاجتماعي الجزائرية، موظف عُرف عنه بأنه محبوب، لا يردّ أحداً يلجأ له، خصوصا كبار السن. كسب سمعة طيبة لدى محيطه، الصغير والكبير، بشهادة الكثيرين.

وقع الرجل في فخّ العجز والخمول والاكتئاب، بل أكثر من ذلك، امتنع محمد السعيد عن التكلم مع أحد، حتى مع أبنائه الأربعة. تقول زوجته لـ"العربي الجديد": "لقد تغير منذ تقاعده، خصوصاً أنه كان اجتماعياً، يحب المرح والحياة، لكن بين لحظة وأخرى صار انطوائياً لا يحب حتى سماع الكلام في بيته".

يتحدث بصعوبة ومرارة عن ماضيه، وكيف ارتقى في سلمه الوظيفي من منصب إلى آخر في غضون عمله لسنوات، كان الضغط رهيباً في يومياته، لكن اليوم انحصر مساره في نقل الأولاد إلى مدارسهم، السوق والمسجد، أما باقي الوقت فهو يقضيه في مشاهدة التلفزيون، خصوصاً مباريات كرة القدم.

طالب محمد السعيد بالحصول على التقاعد، على الرغم من أنه في أوج العطاء بسبب الضغوطات في العمل والإدارة والوثائق والأوراق، لكن في النهاية يقول "الدنيا مع الواقف، أشعر أني ميت حي. في الوظيفة كنت ألتقي العشرات يومياً، وأستمع لحكاياتهم وأقضي حوائجهم، أما اليوم فذهبت الوظيفة، وذهب معها من يتحدثون إليك".



ويضيف أنّ "هناك مهناً متعبة جدا، وهناك وظائف يضطر فيها العامل إلى البحث عن الخلاص وإنهاء مساره بالخروج إلى التقاعد دون البحث عن بديل بعد التقاعد".

مشاعر السعيد المتناقضة والحالة النفسية الصعبة التي يعيشها يكاد يتقاسمها معه الكثيرون، منهم الصحافي عامر بكيس الذي بلغ سن التقاعد. استسلم للإحباط، بعدما كان يقضي يومياته في التغطيات والحوارات ومقابلة شخصيات متعددة والأحداث المتجددة.


يقول لـ "العربي الجديد" "أعيش في دوامة البيت، دخلت نمطاً جديداً من الحياة لم أكن مستعداً له ذهنياً من قبل، بل أكثر من ذلك صرت أخاف من ارتداء ملابس للخروج".

الكثيرون وجدوا الحلول في البحث عن مخارج جديدة لحياتهم الجديدة، من بينها الذهاب للأعمال الحرة والتجارة وهو ما فعله العديد من الأساتذة المتقاعدين، لأن العديد منهم تعرضوا لوعكات صحية، خصوصاً الربو والأمراض العصبية، فالتقاعد والراحة لا يعني أنهم ارتاحوا نهائياً، بحسب أستاذة علم الاجتماع النفسي الدكتورة نورة بونار.

وتوضح لـ"العربي الجديد" أن "أغلب المتقاعدين يمرون بفترة عصيبة قد تدوم سنة كاملة بعد حصولهم على التقاعد، وهي الفترة التي تسمى "السكون بعد الحركة لسنوات"، بمعنى أن المتقاعد اعتاد على نمط من الحياة اليومية لسنوات طويلة، ليجد نفسه بين عشية وضحاها "ساكناً" لا يقوم بنفس الوظائف اليومية، من الاستيقاظ إلى العمل إلى زملاء المهنة".

وتبيّن أنّ "هذه الفترة قد تدخله حالة من الاكتئاب المرضي، خصوصا بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا على الالتقاء بشخصيات وبنمط عالٍ من الحياة الرفاهية، لهذا ينصح أن يشغلوا أنفسهم بأعمال جديدة، تدخلهم نمطاً جديداً لاستمرار حياتهم وأهمها ممارسة الرياضة".

مقابل ذلك، كان التقاعد فرصة سانحة للعديد من المتقاعدين للعودة إلى الجامعات والبحث العلمي لإتمام دراساتهم العليا، أو ممارسة هوايات، ومنهم من تسلح بسلاح "الأرض"، كما هو حال عبد المجيد سعودي، وهو جندي وجد نفسه في سن الخامسة والثلاثين متقاعداً في أوج العطاء، فتوجه لزراعة الأرض وغرس الأشجار.

ويقول لـ "العربي الجديد" إنّه "الحل الأجدى ليشغل يومياته بعد أن قضى 15 سنة في الجبال مع فرق مكافحة الإرهاب، سنوات لن ينساها، ولكن يمكنه أن يتجاوزها بالعمل في الفلاحة".

الكثيرون يعترفون ببعض الضغوطات التي عاشوها خلال عملهم، ومنهم من سعى جاهدا للحصول على التقاعد بعد تعب السنوات، لكن مرحلة ما بعد التقاعد أصعب بكثير بالنسبة لمن يخطط لها، أو يضع لها برنامجا جديداً، بحسب رياض زكري الذي تقاعد من عمله كممرض في أحد مستشفيات العاصمة الجزائرية، مضيفاً لـ "العربي الجديد"ّ بأن التقاعد في نظره ليس عدم العمل، ولكن تغيير الانشغالات اليومية (الوظيفة)".