عندما يودّع أهالي الوعر حيّهم

عندما يودّع أهالي الوعر حيّهم

15 مارس 2017
على تخوم الحيّ (لؤي بشارة/ فرانس برس)
+ الخط -

يعيش أهالي الوعر أيامهم الأخيرة في حيّهم حيث ولدوا وكبروا وخبروا تجاربهم المختلفة. في هذه الأيام، يودّع هؤلاء حيّهم الذي شهد تغيّرات عدّة منذ بداية الثورة السورية.

بعد أربع سنوات من الحصار والتجويع والقصف، يستعدّ أهالي حيّ الوعر الحمصي اليوم لـهجرة قسريّة، تأتي بناءً على اتفاق عُقد بين لجنة من أهالي الحيّ والنظام السوري والروس. في بداية الثورة، قبل ستّ سنوات، كان حيّ الوعر من أكثر الأحياء أماناً في مدينة حمص. ظلّ كذلك نحو سنتَين، وكانوا كثيرين الثوار الذين قصدوه من أحياء حمص الثائرة، كالخالدية وجب الجندلة وتدمر. قصدوه لاتخاذه مقراً لهم، وقد هربوا من ملاحقة قوات النظام، الأمر الذي أدّى إلى زيادة كبيرة في الكثافة السكانية في الحيّ وصلت إلى نحو مليون نسمة خلال عام 2012.

مع بداية عام 2013، أنشئت فصائل مسلحة عدّة داخل الحيّ، ولم يعد في استطاعة قوات النظام دخوله. ويشير خالد، من أبناء حمص، إلى أنّ "المرّة الأخيرة التي دخل فيها النظام إلى حيّ الوعر كانت في أكتوبر 2012. وفي بداية 2013 حاول الدخول مرّتين، لكنّ الثوّار صدّوه".

في مارس/ آذار 2013، بدأ النظام يقصف الحيّ بقذائف هاون، فيما كان يحاصر أحياء حمص القديمة. حينها، بدأت رحلة النزوح من الحيّ. كثيرون من سكانه نزحوا إلى أحياء كرم الشامي وطريق الشام والميدان. استمرّ النظام في قصفه للحيّ وصارت عمليات القصف تتزايد، إلى أن بدأ بحصار الوعر بطريقة كاملة في أكتوبر/ تشرين الأول 2013. في ذلك التاريخ، أغلقت قوات النظام كلّ المنافذ المؤدية إلى الحيّ، لمنع دخول وخروج السكان منه. لم تفتح إلا معبراً واحداً سمّي "معبر الشؤون"، تحرسه حواجز عسكرية لا تسمح إلا للطلاب والموظفين بعبوره.

في تلك المرحلة، اشتدّت معاناة الحصار على الأهالي وباتت تضيق الحياة عليهم أكثر، لا سيّما مع تصاعد تواتر الضربات الجوية والصاروخية على الحيّ، وانحسار مساحة الأراضي الزراعية التي اعتمد عليها السكان لمقاومة الحصار بعد فيضان نهر العاصي الذي تقصّدت قوات النظام حرف مساره لإغراق الأراضي وتحويلها إلى مستنقعات. يُذكر أنّ قوات النظام منعت عدداً كبيراً من القافلات الغذائية التي أرسلتها الأمم المتحدة من الدخول إلى الحيّ قاصدة بذلك التضييق على الأهالي. وفي عام 2015، عقدت لجنة من الأهالي اتفاق هدنة مع النظام يقضي بوقف إطلاق النار بين الثوّار المسيطرين على الحيّ وقوات النظام الذي تحاصره، إلا أنّه لم يدم طويلاً بسبب رفض قوات النظام إطلاق سراح المعتقلين من أهالي الحيّ ورفض الأهالي التنازل عن هذا البند.

وفقاً للشروط التي وضعها النظام أخيراً، يُمنَع أهالي الحيّ من إخراج أيّ شيء غير حاجياتهم الشخصية فقط. ويقول خالد: "لن يسمح لأحد بحمل ممتلكاته معه، فقط أوراق وملابس. نعرف أنّ كل ما يبقى هنا سوف يُسرق، لذا قرّر كثيرون ألا يتركوا شيئاً وراءهم وراحوا يكسرون ويحرقون كلّ شيء، حتى لا تستفيد منه قوات النظام. في المقابل، ثمّة من يقول إنّه سوف يترك كلّ شيء وراءه ولن يفكّر بالأمر". يضيف خالد الذي يعتزم الخروج مع عائلته قاصداً مدينة جرابلس: "نكذب على أنفسنا إذا قلنا إنّنا سوف نعود. أولادنا ربما. أمّا نحن، فلن نرى الوعر بعد اليوم إلا على الخريطة ولن نسامح كلّ من أوصلنا إلى هذه المرحلة. وجعي كبير على فراق هذا الحيّ. وجع يأكل روحي. ليس هناك أصعب من إجبار الإنسان على ترك بيته وحارته التي خلق وعاش فيها حياته بحلوها ومرّها".




بالنسبة إلى أبو صلاح، "لم يكن لدينا خيار سوى الموت أو البقاء في أرضنا. لا أملك شيئاً خارج الوعر، ولدت وتزوجت وأنجبت أطفالي هنا. لم أخرج من هذا الحيّ إلا لزيارة أو عمل. لن أسامح كلّ من خذلنا. خمس سنوات مرّت. قصفنا وظللنا صامدين. جوّعنا وظللنا صامدين. هل يعقل أن نخرج هكذا من بيوتنا؟ أيّ عالم هذا الذي نعيش فيه؟!". من جهته، يقول رضوان وهو ناشط ومصوّر عمل على نقل حال الحيّ إلى العالم طوال السنوات الماضية، "سوف نغلق الأبواب وراءنا ونقول للجميع: لم يعد هناك وعر. توتة توتة خلصت الحدوتة".

أبدى أهالي الوعر قدرة كبيرة على تحمّل أصعب ظروف الحياة، إذ لم تسمح قوات النظام طوال السنوات الماضية إلا بإدخال كميات شحيحة جداً من المساعدات، في حين منعت دخول الأدوية. رؤى مهندسة تعيش في الحيّ، تروي تجربتها مع الحصار. تقول: "كانت أسوأ سني حياتنا. عشناها تحت الحصار والقصف، وعلّمتنا دروساً لا يمكن أن ننساها. قبل ذلك، كنت أعيش حياة طبيعية ولم أعرف الفقر يوماً. خلال الحصار، تغيّر كلّ شيء. عرفت كيف يمكن أن يعيش الإنسان من دون طعام أو دواء، ومحاصراً في بقعة صغيرة تتحوّل بعد فترة إلى العالم كله. بالنسبة إلينا أهالي الوعر، حيّنا هذا هو العالم كله". تضيف رؤى: "عشنا جميعاً هنا، أهالي الوعر والمهجّرين من حمص، فقراء وأغنياء، ظروفاً واحدة. عشنا على فتات ما كان يصلنا من الأمم المتحدة. طوال السنوات الماضية، عرفنا كيف يقدّم العالم الفتات بيد مكسورة إلى المظلومين والمحاصرين مثلنا، كأنّه يقول: لا تموتوا سريعاً. موتوا ببطء".

أمّا زينة فتقول: "أسوأ ذكرياتي وأجملها كانت يوم زفافي. فقد تزوّجت في الحيّ قبل شهرَين ولبست ثوب زفاف أختي لأنّه لا ملابس جديدة تباع في الحيّ منذ زمن. أي عروس في هذا العالم لا تشتري ثياباً جديدة"؟! إلى ذلك، كان حفل زفافها متواضعاً جداً، "لم نقدّم فيه ضيافة كالمعتاد".

أحمد كما غيره، يعتزم مغادرة الحيّ. يقول ابن الثامنة العشرة: "لطالما كان القنّاص هاجسي. قنص اثنين من أصدقائي، أحدهما مات فيما أصيب الآخر في قدمه". يضيف: "تتكرّر الكوابيس. أراه فيها وهو يقنصني. حتى حين أمشي في الشارع، أشعر بأنّه يراقبني وبأنّه يتهيأ لإطلاق النار عليّ. أريد الخروج إلى مكان لا يوجد فيه قنّاص ولا قصف".

إلى أبناء حيّ الوعر هؤلاء، تقول غنى وهي نازحة من حيّ الخالدية سبق والتجأت إلى الوعر: "هذا ثاني تهجير لنا. نزحنا إلى الوعر واستقررنا في منزل فيه. في الطبقة الأخيرة، كنّا نعيش تحت رحمة القنّاص الذي تركنا له غرفة كاملة في المنزل. فهو كان يستهدفها على الدوام. وضعنا تحصينات من الرمال على نوافذ الغرف الأخرى التي كنّا نستخدمها. كنت أخاف على الدوام من أن تدخل طفلتي إلى هذه الغرفة ويستهدفها القناص". تضيف: "لكنّ ما حصل أسوأ. فقد استهدف مسكننا بقذيفة، ففقدت طفلتي ابنة السنوات الخمس ساقها. بتروها بعد الإصابة". وتردف: "حتى إن حاولنا أن ننسى، لن نتمكّن من ذلك. سوف أحمل هذه المسؤولية طوال حياتي. عاش أطفالنا هنا حياة غير طبيعية، ولم يعرفوا إلا الخوف والخطر. لم يعرفوا طعم البسكويت ولا السكاكر، لأنها غير متوفّرة هنا. لكنّهم، وقفوا معنا على أبواب المنظمات الإغاثية، بدلاً من أن يكونوا في المدارس".