عبقرية أميين... جزائريون عادوا من فرنسا بعد التقاعد

عبقرية أميين... جزائريون عادوا من فرنسا بعد التقاعد

13 مارس 2017
كانت لهم حياة حافلة (إسماعيل مالكي)
+ الخط -

توشك الجزائر أن تفقد واحداً من أجيالها الذهبية، ذلك الذي هاجر إلى فرنسا في العقود السبعة الأولى من القرن العشرين للعمل، وعاد ليشيّد بيوتاً ويقيم مشاريع غيّرت ملامح القرية الجزائرية.

بعد الحرب العالمية الثانية، كان على السلطات الفرنسية أن ترمّم البنية التحتيّة المدمّرة في البلاد، فاستقدمت آلاف العمّال من مستعمراتها المختلفة. الجزائريون، كانت لهم أولوية، والهدف استيعابهم، وتعطي انطباعاً بأنها تشغّل "مواطنيها" وتحميهم من الفقر والحاجة.

فتحت عشرات مكاتب العمل أبوابها في المدن الجزائرية الكبرى، فكان يقصدها الجزائري. وفي اليوم التالي، يجد نفسه في فرنسا موظفاً ومؤمّناً في إحدى شركاتها الكبرى، هو الذي لا يقرأ ولا يكتب حرفاً، ولم يسبق له أن غادر مسقط رأسه، قرية كان أم مدينة إلا في حالات قليلة.

في ذلك الحين، لم تدرك الحكومات الفرنسية المتعاقبة أنّ هؤلاء العمّال بمعظمهم، سوف يموّلون الفعل الثوري في بلادهم. ولم تدرك أنّ أحفاد هؤلاء سوف يتحوّلون، بعد بضعة عقود مع أحفاد المجنّدين الجزائريين الذين حاربوا في صفوفها وغادروا البلاد معها بعد الاستقلال الوطني في عام 1962، إلى قنبلة سياسية واجتماعية داخلها، تُعرف بسكّان الضواحي.

بلغ عدد العمّال الجزائريين في فرنسا في عام 1947، بحسب مجلّة "المجاهد" (عدد كانون الثاني/يناير 1982) 67 ألف عامل، انضمّ إليهم 26 ألفاً بعد عام واحد، ليبلغ العدد 180 ألفاً و167 عاملاً في عام 1962، عاد منهم 155 ألفاً و18 عاملاً، ليبقى 25 ألفاً و149 عاملاً حتى حصولهم على التقاعد في سنوات لاحقة.

كان المهاجرون بمعظمهم من الشباب الذين لا تزيد أعمارهم عن أربعين عاماً، وقد وفدوا من المناطق الجزائرية الأكثر بؤساً. ولأنّهم لم يكونوا مؤهلين فنياً، فقد شغلوا وظائف تعتمد على الجهد العضلي، بحسب كتاب "العمّال الجزائريون في فرنسا" للباحث عمّار بوحوش. فعملوا في مصانع الغاز وورش الفحم والمرائب والمستودعات والتنظيف في البلديات والمترو والتخزين والأشغال العمومية، وقد تركّز 60 في المائة منهم في العاصمة باريس وضواحيها، قبل أن يستقطبهم الجنوب، لا سيما مدينة مارسيليا.

في الغربة

استمّرت موجة الهجرة للعمل بعد الاستقلال الوطني، ولم تتوقّف حتى منتصف ثمانينيات القرن العشرين، إذ كانت الإجراءات الخاصّة بذلك بسيطة. ويقول الحاج عزيّز بلواعر: "كان يكفي أن تحوز بطاقة تعريف وطنية ومبلغاً لأجرة الباخرة ويكون لك من يستقبلك في فرنسا ويتكفّل بطعامك ومبيتك، حتى تتقاضى راتبك الأول". يضيف: "كانت الصعوبات التي واجهت دفعة الستينيات والسبعينيات أقلّ بكثير من تلك، التي واجهت دفعتَي الأربعينيات والخمسينيات".



من جهته، يروي الحاج بلقاسم ملّاح (1934) مغامرته لـ"العربي الجديد"، فتبدو تفاصيلها غريبة، نظراً إلى طبيعة مهاجر من بيئة رعوية موغلة في الفقر والأمية من جهة، وطبيعة العيش في البيئة المستقبلة التي كانت في صدارة البلدان المتقدّمة والمعتمدة على العلوم. يقول: "وضعنا الاحتلال في محتشد مغلق، أشبه ما يكون بغرفة تضمّ أسراً عدّة. شحّت مواردنا وانعدمت مداخيلنا، فأصبنا بالجوع والمرض والعري، حتى باتت حياتنا مجازية. وبات خيار الهجرة أقوى عندي، بعد تردّدي في ذلك لخوفي من الضياع في بلاد لا أعرف لغتها ولا دينها ولا تقاليدها. الذين سبقوني إليها من قريتي، كانوا يُعدّون على أصابع اليد الواحدة".

أحد الذين عادوا (إسماعيل مالكي)


يكمل الحاج بلقاسم سرده: "كنت أعمل في الرعي عند زوج أمّي، في مقابل رغيف في المساء. وفي عام 1955، قصدت الباش آغا وهو ممثّل الإدارة الفرنسية في منطقتنا، ورجوته أن يساعدني في الذهاب إلى فرنسا. وصلت إلى مارسيليا بحراً، وكانت المرّة الأولى التي أرى فيها البحر والباخرة وأنزع العمامة وآكل خبزاً من غير شعير. ومنها إلى باريس، في القطار". ويشرح وضعه: "حينها، لم أكن أعرف الفرنسية، ولا هم كانوا يعرفون العربية. وكنت أجد صعوبة حتى لطلب الخبز والحليب. وإذا تحدّث معي أحدهم بأكثر من جملتَين اثنتَين، كنت أظنّ أنه يشتمني أو يُهدّدني. وعدت نفسي بأن أصبر على كلّ الإكراهات، ولا أستسلم لرغبة العودة إلى القرية حتى أتدبّر عملاً يدرّ عليّ مالاً أرسل منه لأسرتي في الجزائر حتى تتفادى الموت جوعاً. وهذا ما كان". وقّع عقداً مع مختبر لصناعة الأدوية لمدّة أربع سنوات، قبل أن ينتقل إلى شركة متخصصة في صناعة السيارات، "فرُقّيتُ في وظيفتي وأصبحت مكلفاً بشؤون العمّال".

أمّا عن الأكل والمبيت، فيقول: "كان الواحد منّا يستأجر غرفة فردية في مرقد مخصّص للعمّال غير الفرنسيين، وكانت كلّ طبقة فيه تضمّ مطبخاً. فكنت أطبخ لنفسي أحياناً، وأشترك مع آخرين في أحيان أخرى". ويشير إلى أنّه "لم نكن نصرف كثيراً على أنفسنا، حتى نوفّر مالاً نعود به إلى أهلنا، خلال العطلة السنوية التي تستمرّ شهراً والتي كانت تمثّل عرساً لنا وللقرية. فالعشرات كانوا يعودون محمّلين بالهدايا، لكلّ أفراد العائلة وللمعارف وكبار السنّ في القرية وأعيانها. وصارت احتفالات الزواج والختان تقام فقط خلال ذلك الشهر، حتى تصير الفرحة فرحتين".



المهاجرون بمعظمهم لم يندمجوا في النسيج الفرنسي العام، مفضّلين الانغلاق على بعضهم بعضاً، وهو ما جعل كثيرين منهم يعودون بعد التقاعد وهم لا يحسنون صياغة جملة واحدة باللغة الفرنسية، على الرغم من مكوث الواحد منهم ما لا يقلّ عن عشرين عاماً هناك. الحاج المكّي شيهب (1928) من هؤلاء، يخبر: "كنا نتوزّع على مراقد جماعية، بحسب الانتماء القبلي. وكان لكلّ جماعة تنتمي إلى قبيلة واحدة، ناطق باسمها ومدافع عن مصالحها ومشرف على تأديب الخارج منها عن التقاليد والعادات العربية، من قبيل انتهاك شهر رمضان أو التقاعس عن إرسال المال إلى أسرته في الجزائر".

يضيف أنّ "روح التضامن هذه دفعتنا إلى إنشاء صندوق نضع فيه اشتراكات دورية، تذهب إلى التكفّل بإرسال جثمان من يموت منّا إلى مسقط رأسه، إذ كنّا نرى أنّه من العار أن ندفن موتانا في أرض النصارى. كذلك كنّا نتكفّل بالوافد الجديد حتى يتدبّر عملاً ويتقاضى راتبه الأوّل، أو بمن تخلّت عنه شركته إلى أن تقبله شركة جديدة. وكنا نصرف بعض ما في ذلك الصندوق لشراء ما يلزم جامع القرية".

ما بعد العودة

تُعدّ القرى الواقعة في الجهة الغربية لمحافظة برج بوعريريج (200 كيلومتر شرق الجزائر العاصمة) والتي تضمّ خليطاً من عرب وأمازيغ، من أكثر المناطق التي هاجر أبناؤها خلال العقدين اللذين تليا الاستقلال الوطني مطلع ستينيات القرن العشرين. وقد راح هؤلاء يعودون إلى قراهم بعد بلوغهم سنّ التقاعد في مطلع تسعينياته.

أسّست عودة المهاجرين لجملة من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية في تلك القرى، وفي أخرى شبيهة بها في المحافظات الأخرى. فصارت تُهدَم البيوت القديمة المعتمدة على الحجر والقرميد وتشيَّد بدلاً منها بيوت من الإسمنت. كذلك استبدلت الجرّارات والحيوانات المخصّصة للفلاحة بالسيارات السياحية والشاحنات المخصّصة لنقل السلع ومواد البناء، في ظلّ توجّه نحو الاستغناء عن الزراعة وتربية المواشي واقتناء كلّ شيء من أسواق المدن المجاورة.

في السياق نفسه، يقول أعمر مريحات، وهو مدير المركز الثقافي في قرية أولاد جحيش، إحدى القرى المذكورة آنفاً، إنّه "من نتائج تلك الروح الاستهلاكية الطارئة، اختفاء السوق الأسبوعي الذي كان يتوسّط القرى ويعجّ بالخيرات المنتجة محلياً". يضيف: "لا ألوم المهاجرين العائدين، فهم هرموا وأصيبوا بأمراض مزمنة. اللوم هو على أولادهم وأحفادهم الذين لم يُحسنوا الاستثمار في أموال التقاعد الآتية من فرنسا".

من جهته، وعن نظرته إلى أبيه وجيل أبيه، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة المسيلة، سعيد ملاح، إنّها "تجربة تنمّ عن عبقريّة نادرة". يضيف: "ما يُؤسف له أنّها لم توثّق بطريقة لائقة، لا من الجهة الإنسانية ولا من قبل المؤرّخين والروائيين والسينمائيين. فبقيت حبيسة ذاكرات أصحابها الذين شرعوا في الانتقال تباعاً إلى العالم الآخر". ويُقارن ملاح بين ذلك الجيل وجيل اليوم: "في الوقت الذي فرض فيه الجيل الأوّل نفسه في الفضاء الفرنسي وهو لا يحسن لغته، فاشتغل فيه حتى حصّل تقاعداً مريحاً منه، وعاد إلى مسقط الرّأس وأنجز مساكن ومشاريع، يعجز الجيل الجديد عن التواصل مع الغربيين حتى عبر فيسبوك، ويكتفي بأن يحلم بالهجرة إليهم أو يُخاطر فيركب البحر ليصير عالة عليهم".