ثورة 1917... روسيا تستعيد ذكرى البلاشفة

ثورة 1917... روسيا تستعيد ذكرى البلاشفة

07 نوفمبر 2017
لينين وستالين حاضران (فياشيسلاف أوزيليدكو/ فرانس برس)
+ الخط -
بعد مرور قرن على أحداث عام 1917 التي أنهت حكم القياصرة من آل رومانوف في روسيا وأسست للاتحاد السوفييتي، يبدو المجتمع الروسي منقسماً حول نتائجها حتى الآن، على الرغم من مرور 26 عاماً على تفكك الدولة الشيوعية

تعيش روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ومعها العالم في أيامنا الحاضرة ذكرى مرور 100 عام على انتصار الثورة البلشفية التي قادها فلاديمير لينين لإسقاط حكم قيصر الإمبراطورية الروسية الأخير نيقولاي الثاني، والتي أدى انتصارها إلى ظهور أعظم قوة شيوعية في العالم طوال 70 عاماً، وكذلك القطب المواجه للولايات المتحدة في الحرب الباردة على أساس أيديولوجي قوامه الرأسمالية والليبرالية الأميركية والشيوعية السوفييتية.

روسيا، التي ورثت الاتحاد السوفييتي السابق في ما له وما عليه، دون بقية الجمهوريات المتفككة عنه، تستعيد هذه الذكرى بانقسام حول نتائج الثورة ما بين مؤيّد ومعارض لها.

دولة عظمى
يظهر استطلاع للرأي أجراه "مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام" قبيل الذكرى المئوية لثورة البلاشفة التي تحييها روسيا اليوم الثلاثاء، أنّ 45 في المائة ممن استطلعت آراؤهم يرون أنّ الثورة "عبّرت عن إرادة أغلبية شعوب الإمبراطورية الروسية" مقابل 43 في المائة لا يشاركون هذا الرأي. كذلك، رأى 38 في المائة من المشاركين في الاستطلاع أنّ الثورة أتت بنتائج إيجابية بتشكيلها دفعة لتنمية البلاد، كذلك اعتبر 23 في المائة أنّها دشّنت عهداً جديداً في تاريخ روسيا.

يعتبر الأستاذ في كلية العلوم الإنسانية بالمدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، المؤرخ أوليغ بودنيتسكي، أنّ هذا التباين في مواقف الروس حيال ثورة 1917 أمر طبيعي، في ظل استمرار الانقسام في تقييم انهيار النظام الشيوعي وتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991. يقول بودنيتسكي في حديثه إلى "العربي الجديد": "هناك قسم من المواطنين يعتبر أنّ الثورة أسفرت عن قيام دولة عظمى. صحيح أنّ الثورة أدّت إلى تطبيق نظام التعليم للجميع، لكنّ هذا البرنامج كان مقرراً حتى قبل ذلك، ولم يكن يستدعي قيام الثورة".



يشير إلى أنّه بعد ثورة عام 1905 التي تمخض عنها تأسيس مجلس الدوما (النواب) وتقليص صلاحيات الحكم القيصري، بدأت روسيا تسير على الطريق الأوروبي، لكنّ ثورة البلاشفة تسببت في الانحراف عنه. وحول تداعيات ثورة 1917، يتابع: "أدت الثورة إلى وقوع حرب أهلية ومجاعة وإبادة الطبقة المثقفة ثم ضربة لقطاع الزراعة بتأميم الأراضي، وصولاً إلى إرهاب الدولة في الثلاثينيات الذي فاق نطاق القمع في أعقاب الثورة الفرنسية كثيراً".

أسباب ونتائج
عوامل كثيرة أدّت إلى الثورتين في فبراير/ شباط وأكتوبر/ تشرين الأول 1917، يرجعها مؤرّخون إلى سوء أحوال العمال والفلاحين، وانعدام الحقوق السياسية، ونتائج الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، وتراجع مكانة السلطة القيصرية وعجزها عن إجراء إصلاحات.

يعتبر بودنيتسكي أنّ الحرب العالمية الأولى التي أودت بحياة الملايين واستنزفت موارد الإمبراطوريات الأربع الكبرى (الروسية، والعثمانية، والنمساوية ــ المجرية، والألمانية) وأنهت وجودها، كانت العامل الحاسم لوقوع ثورة البلاشفة. ويقول في هذا السياق: "أسفرت الحرب العالمية الأولى عن إقامة أنظمة شمولية في بعض البلدان الأوروبية مثل إيطاليا وألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي الذي استمر عمره أطول من غيره".

بدأت الأحداث الدراماتيكية التي مهّدت للثورة، مطلع عام 1917، إذ أسفرت اضطرابات في إمدادات المواد الغذائية عن إضرابات عمالية واسعة النطاق وأعمال شغب في العاصمة الروسية آنذاك بتروغراد (اسمها الحالي سانت بطرسبورغ). ومع زيادة أعداد العمال الثائرين، بدأ طلاب وموظفون وحرفيون وفلاحون بالانضمام إليهم، لتجتاح بتروغراد وموسكو وغيرهما من المدن. لم تسفر الإعدامات والاعتقالات عن تهدئة الحراك، لتتحول بتروغراد إلى ثكنة عسكرية، قبل أن يحسم انشقاق أعداد كبيرة من الجنود في 27 فبراير/ شباط 1917 الصراع لمصلحة المتمردين الذين سيطروا على المباني الحكومية. وفي الأيام التالية، جرى تسليم السلطة إلى الحكومة المؤقتة في موسكو و"مجلس النواب العماليين والعسكريين" في بتروغراد، بينما تنحّى الإمبراطور نيقولاي الثاني عن العرش في 2 مارس/ آذار.

وعلى الرغم من إعلان السلطة الجديدة عن إعلاء الحقوق والحريات السياسية، وإلغاء عقوبة الإعدام والمحاكم العسكرية، إلّا أنّ ازدواجية السلطة (بين البلاشفة والمناشفة، أي الأكثرية والأقلية) زادت من انقسام المجتمع. ووسط عجز الحكومة المؤقتة عن حلّ مشكلات المجتمع مقابل تنامي نفوذ زعيم البلاشفة فلاديمير لينين بدأت أفكار الاشتراكية تنتشر أكثر فأكثر. ومع زيادة عدد أنصار البلشفية، جرى تشكيل "اللجنة العسكرية الثورية" التي بدأت الاستعدادات لتمرّد مسلح. وفي 25 أكتوبر/ تشرين الأول سيطر البلاشفة بقيادة لينين على كلّ المباني الرئيسية واعتقلوا أعضاء الحكومة المؤقتة التي كان يترأسها ألكسندر كارينسكي.

أسفر انقلاب أكتوبر عن انتصار البلاشفة وإقامة "دكتاتورية البروليتاريا" والقضاء على المجتمع الطبقي، وإعدام نيقولاي الثاني وأفراد أسرته، والحرب الأهلية الدموية بين المعسكرين الأحمر والأبيض، وتأسيس الاتحاد السوفييتي، وتغيير مسار تاريخ روسيا بل كلّ أوروبا.

لقاح من الثورة
يختلف الروس في تقييمهم أحداث عام 1917، إلّا أنّ ثمة إجماعاً بينهم على رفضهم ثورات جديدة. وأظهر استطلاع "مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام" أنّ 5 في المائة فقط من الروس يعتبرون أنّ بلادهم "تحتاج إلى ثورة اليوم" مقابل 92 في المائة يعتقدون أنّه يجب "عدم السماح بوقوع ثورة مهما حدث".

يرجع الباحث في معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية أندريه أندرييف هذا الإجماع إلى التجربة المريرة لثورة البلاشفة وما تشهده دول أخرى حالياً، وفي مقدمتها أوكرانيا، من اضطرابات بعد تغيير السلطة.



يقول أندرييف في حديث لـ"العربي الجديد": "دفع الشعب الروسي ثمناً باهظاً نتيجة ثورة أكتوبر التي أدّت إلى إفقار السكان وموجة من الإرهاب الكبير، ويدرك الشعب أنّه لا يملك اليوم موارد تمكّنه من تحمل ذلك مرة أخرى. يتابع المواطنون الروس الاضطرابات التي تحدث في دول مثل ليبيا وسورية ومصر، وبشكل خاص أوكرانيا التي يعيش فيها أقارب لنحو نصف سكان روسيا، ويدركون أنّ الثورة ليست أسلوباً مناسباً لحلّ مشاكلهم".

يعتبر أندرييف أنّ نتائج استطلاعات الرأي مخادعة، لأنّها تعكس حنين المواطنين للعدالة الاجتماعية النسبية في حقبة الاتحاد السوفييتي، وليس إلى ثورة البلاشفة التي يُنظر إليها في حد ذاتها على أنّها حدث مأساوي. ويضيف في هذا السياق: "أدت الثورة إلى زيادة وتيرة بعض البرامج الاجتماعية، لكنّ الخطط مثل محو الأمية وبناء مترو الأنفاق في موسكو تعود إلى ما قبلها، وكان يمكن المضي فيها من دون تغيير نظام الحكم بل مع الانتقال التدريجي إلى الملكية الدستورية".

مع ذلك، لا يستبعد أندرييف احتمال تنامي الأمزجة الثورية في الأجيال الجديدة من الروس التي لم تعش الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ويقول: "لا تحدث الثورات عندما يكون الشعب في أسوأ أحواله، بل نتيجة لارتفاع سقف توقعاته. مَن عاش فترة التسعينيات في روسيا، يكفيه أن يكون هناك استقرار، لكنّ الجيل الجديد ينزعج جداً من الفساد والسلبيات الأخرى، ونسبة أنصار المعارضة بين الشباب أعلى منها بين فئات عمرية أكبر".

مع الانتقال إلى التقويم الغريغوري عام 1918، أصبحت روسيا السوفييتية تحيي ذكرى ثورة البلاشفة في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني من كلّ عام، مع ترسيخ تسميتها بثورة أكتوبر. ومنذ عام 2005، لم تعد ذكرى الثورة عيداً رسمياً، بل تم استبداله بعيد الوحدة الشعبية الذي أصبحت تحتفل به روسيا في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني تخليداً لتحرير موسكو من الاحتلال البولندي عام 1612 ونهاية ما عرف بـ"الفترة المظلمة".

وفي الوقت الذي ينظّم فيه الحزب الشيوعي الروسي احتفالات واسعة بمناسبة مرور قرن على الثورة، أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أمله في أن تصبح هذه الذكرى "رمزاً لتجاوز الانقسام" و"قبول تاريخ الوطن كما كان، بانتصاراته وبصفحاته المأساوية أيضاً".