بوح الجزائريين في المطارات

بوح الجزائريين في المطارات

26 نوفمبر 2017
وسيلتهم واحدة وغاياتهم مختلفة (العربي الجديد)
+ الخط -
في لحظة السفر يصبح المطار مدينة لها أجواؤها الخاصة. هناك يلتقي العالم بمختلف لغاته، ويصبح للغة والحكايات شكل ومضمون آخران. هناك يصبح للوقت والمكان معنى، وتصبح للوجوه تفاصيل أخرى تمثل حالة المسافر من مكان إلى آخر، أو الهارب من مكان إلى مكان، أو الباحث عن لحظة سعادة.

يختزل المطار العديد من اللقاءات بين المسافرين. هناك يتحدث بعضهم عن همومه. يقول محمد الوافي وهو جزائري من منطقة بسكرة، جنوب العاصمة الجزائرية: "القلب يفتح لمن لا يعرف ماضينا، ذاك الذي يستمع إلينا بأذن صادقة ثم يتركنا بمجرد الإعلان عن بدء التسجيل للرحلة المقبلة". منذ بدأ السفر قبل 19 عاماً شعر بذلك "كان المطار آخر ما لمسته كمبنى ومعنى في الجزائر قبل أن أهاجر نحو فرنسا ومنها إلى بلجيكا". وبينما كان يعيش حياة أكاديمية كأستاذ جامعي تغير اهتمامه نحو الاستثمار في المجال السياحي. يستعيد الوافي طوال عشرين دقيقة حكايته الأولى بعدما ترك المحاضرات التي كان يلقيها بجامعة العلوم والتكنولوجيا بولاية قسنطينة، شرق الجزائر، في أجواء التسعينيات المضطربة في البلاد بسبب الحرب بين القوات الحكومية والجماعات الإسلامية المسلحة. أوضاع دفعته إلى بيع سيارته القديمة واقتراض بعض المال والسفر نحو "المجهول". يفسر: "فرنسا كانت البداية وبلجيكا صارت اليوم المستقر، نمت على فرش من الكرتون في محاذاة المترو. طاردتني الشرطة بعدما انتهت مدة صلاحية إقامتي كأستاذ جامعي. اشتغلت في أكثر من مهنة ختمتها بقطاف الخضر". لكنّه فكر جدياً في أن تكون فرنسا هي المحطة لا أكثر والمضيّ منها نحو ألمانيا أو بريطانيا. مع ذلك، تعرّف بفتاة تزوجها بعد ثلاثة أشهر وانتقلا معاً إلى بلجيكا للعيش والعمل.

بدورها تقول السيدة حياة (59 عاماً): "المطار هو ما يربطني ببلدي وأهلي وعائلتي في الجزائر. في هذا المكان يجري الحنين في القلوب ويسمح بسرد تفاصيل الحياة الخاصة بين أشخاص لا يعرف بعضهم بعضاً... هم يقرأون في عيونهم الثقة ويشعرون بإصغائهم إليهم، فيما يعتبر بعضهم أنّ لقاءً عابراً يكفي لفرصة فضفضة والتعبير عن ألم تركه كلّ واحد وراءه". تتابع لـ"العربي الجديد"، إنّها تزور الجزائر لرؤية أشقائها والبقاء أسبوعين فقط لتعود بعدها إلى مرسيليا الفرنسية. هنا تغتنم الفرصة لشراء مسكن تجد أنّه تأمين لمستقبلها بعد العودة من ديار الغربة التي قضت فيها أكثر من نصف قرن. تلفت إلى أنّ "حياة الغربة صعبة جداً حتى عندما تكون الظروف مواتية للعيش، فهناك نفتقد روح العائلة خصوصاً في المناسبات".

في المطار تبدأ الصداقة أيضاً، وهي حال مجموعة من الشباب الذين وجدوا أنفسهم على متن الرحلة نفسها إلى إسطنبول التركية. معظم هؤلاء طلاب جامعيون يطمحون لإتمام دراساتهم العليا، وتجريب حظهم في الدراسة في بلد يرون أنّه "مفتاح لكلّ طالب علم" بينما يراه أحدهم مكاناً للعيش في ظروف أفضل بكثير من الجزائر. وقت الانتظار كان كافياً للانسجام بين هؤلاء الشباب، فتبادلوا حساباتهم الاجتماعية، واتفقوا على التواصل في إسطنبول والتعاون بقدر الإمكان، وقد يبدأ هذا التعاون من الاشتراك في سيارة الأجرة التي ستحملهم من المطار إلى وسط المدينة.



في المطار تتغير مسارات حياة بعضهم بمجرد ركوب طائرة تسافر إلى الخارج. يذكر نور الدين، وهو مهندس إلكترونيك أنّه أمضى ساعات الانتظار يفكر في أنّ العمل في اختصاصه سيكون متاحاً له في فرنسا التي كان يقصدها، لكنّه اصطدم بواقع مختلف. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه تمكن من التأقلم مع كلّ الظروف طوال سنتين كاملتين، كما تمكن من التسجيل في الجامعة لإتمام الدراسات العليا بعد ذلك، ومن خلال كلّ ذلك تمكن اليوم من تحقيق طموحه في العمل لفرع مؤسسة عالمية في باريس. لكنّ ذلك لم يأتِ إلاّ بعد عشر سنوات من الكد والعمل والاجتهاد، وهو ما لا يفكر فيه كثير من الشباب الجزائريين. يشير إلى أنّ بعضهم يرى في الهجرة "مغامرة محفوفة بالمخاطر" بينما يعتقد آخرون أنّها "باب الجنة" فيما يصطدم كثيرون بالواقع ويحاولون التكيف معه إلى أن يتحسن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي والمهني.

في المطار أيضاً قصص للغضب والصبر والهدوء وإدارة الوقت، فهناك من تفوته رحلته ويصل متأخراً، أو تتأخر رحلته، وهو ما يعطل وصول المسافرين في مواعيد مناسبة، وفي هكذا لحظات يحضر الغضب والقلق، وتصبح صالة الانتظار مدرسة للصبر ومدرسة للتفاوض مع المسؤولين، وربما تتشكل "نقابة" صغيرة مؤقتة من المسافرين على نفس الرحلة للمطالبة مثلاً بمعرفة وقت الرحلة الجديد أو حقوق المسافرين.