لماذا ولمن تغني الطيور؟

لماذا ولمن تغني الطيور؟

30 أكتوبر 2017
يُحسَد الكاردينال على عدم توقّفه للتنفس (رسلان رحمن/فرانس برس)
+ الخط -
بواسطة الصندوق الصوتي الذي يسمّى "سيرينكس" أو أنبوب المصفار، والذي يقع عند تفرّع القصبة الهوائية إلى شعبتَين، تصدر الطيور المغرّدة أصواتاً غنائية من خلال تذبذب أنسجة تسمى بالشفاه. وللطيور قدرة على إحداث أصوات مختلفة من خلال التحكم بعضلات مستقلة.

من هنا، نجد على سبيل المثال طائر الكاردينال الذي يصدر نوتات موسيقية يفوق عددها تلك الخاصة بالبيانو، وذلك بأقلّ من عشر الثانية. فيبدأ بالتغريد على جهة من السيرينكس ليكمل بنوتات أخرى على الجهة الثانية منه، من دون أخذ أيّ نفس بين الوصلتَين. أمّا ذكر سمنة الغابات فيستطيع في الوقت نفسه أن يصعد بنوتة الغناء على جهة وينزل بها على الجهة الثانية، وهو الأمر الذي يحسده عليه البشر، مثلما يحسدون الكاردينال على عدم توقّفه للتنفس. وهذا ما يدلّ على أنّ الطيور بمعظمها قادرة على تعلّم الغناء، وأخرى - أقل بكثير - تصدر أصواتاً بالفطرة.

وتضمّ الطيور المغرّدة عادة عصافير الشوك كالحساسين وعصافير السمن كالشحارير وعصافير الهوازج كالتيان وعصافير الدوري وغيرها من البلابل وسنّ المنجل والبوبانة والقبّرة والمويت والدخن، بالإضافة إلى أخرى. وهذه الطيور المغرّدة تمثّل نحو نصف طيور العالم البالغ عددها نحو 10 آلاف نوع مختلف. لكنّ السؤال يبقى: "لماذا تغرّد الطيور؟".

بعد الاستثناءات، فإنّه من الواضح أنّ ذكور الطيور في مناطقنا المعتدلة والشرق أوسطية، هي التي تغنّي. وهي تفعل ذلك لسببَين أساسيَّين: جذب الأنثى وحماية الأرض، أي موقع التفريخ، من الطيور الذكور الأخرى. صحيح أنّ ألوان الذكر الجميلة تلعب دوراً في جذب الأنثى في فصل التفريخ، إلا أنّ ذلك على ما يبدو ليس كافياً لأنّ الأنثى تريد الاطمئنان على صحّة شريكها وبالتالي نسلها وذريّتها، لذا فإنّ صوت المغرّد يدلّ على صحّة الزوج أو الشريك. وبعدما ترضى الأنثى بشريكها ويتمّ التزاوج، يبقى عليه حمايتها وحماية العشّ والصغار من كلّ دخيل بواسطة الغناء الذي يعلن به ملكيّته للموقع ويدافع عنه ضدّ الدخلاء، خصوصاً الذكور من النوع نفسه. يُذكر أنّ لكلّ نوع من الأنواع المغرّدة أرضاً يحدّد هو مساحتها وتبلغ في المعدّل 2500 متر مربّع، أي 50 × 50 متراً للزوج الواحد. فإذا دخل ذكر آخر من أيّ نوع إلى هذه المساحة، يعمد الذكر صاحب الأرض إلى الغناء بقوّة حتى يخرج الدخيل، وإن لم يفعل هاجمه حتى حدود أرضه.

سماع غناء الطير يدلّ عادة على ذكر في منطقة الشرق الأوسط والمناطق المعتدلة، حيث صوت الأنثى يكون بسيطاً وقصيراً ويستخدم للتواصل وإطلاق إشارات الإنذار بوجود خطر ما. لكنّ الأمر يختلف في المناطق الاستوائية حيث الأنثى تشارك الذكر في الغناء وينخرطان معاً بنوع من الغناء الثنائي (دويتو).

تجدر الإشارة إلى أنّ طائر أبو الحنّ الذي يشتّي في لبنان والدول المجاورة ويعشّش في أوروبا، هو استثناء بحدّ ذاته لأنّ الذكر والأنثى يغنّيان بالجودة نفسها في فصل التفريخ كما أثناء الهجرة أو في فصل الشتاء، بل هما يغرّدان في الليل والنهار وفي أيّ مكان وزمان.

وبحسب ما ذكرنا آنفاً، فإنّ الطيور المغرّدة بمعظمها تتعلّم الغناء ولغة التواصل. ويحدث ذلك منذ الفقس عندما يصغي الصغار إلى أصوات الأبوَين والجيران، ثم تصغي إلى الطيور الذكور التي تغنّي حولها وتحاول إعادة أداء هذه الأغاني، وتتدرّب عليها إلى أن تخرج منها شبيهة بتلك التي تخرج من "المعلّم". وتتشابه أصوات النوع الواحد، لكنّ الأنواع المعزولة تنمّي لهجة خاصة بها تميّزها عن نوع مماثل في مكان آخر، كما عند البشر.

من جهة أخرى، يجهل كثيرون الإجابة على سؤال "لماذا تغرّد الطيور عند الفجر" في ما يشبه جوقة موسيقية تزيد كثافتها على كثافة أيّ جوقة أخرى في غير وقت الفجر. في الواقع، تبدأ الطيور بالغناء مذ تفتح عينَيها مستيقظة عند الفجر وذلك للتأكيد على أنّ الأرض مملوكة للزوج ويجب الابتعاد عنها، لا سيّما وأنّ ذاكرة بعض الأنواع ضعيفة، الأمر الذي يتوجّب تذكيرها. كذلك فإنّ الغناء فجراً هو دعوة إلى الاستيقاظ والعمل في الصباح الباكر، عندما يسهل تناول الحشرات التي تجدها هذه الطيور شبه مخدّرة ومبلولة من رطوبة الليل على أغصان الأشجار وجذوعها وأوراقها.

*اختصاصي في علم الطيور البرية

دلالات

المساهمون