هويّات أميركا... صراع يعيد البلاد إلى الوراء

هويّات أميركا... صراع يعيد البلاد إلى الوراء

20 أكتوبر 2017
تنديد بتفوّق البيض أمام البيت الأبيض (أليكس وونغ/ Getty)
+ الخط -

يبدو أنّ الولايات المتحدة الأميركية عادت سنوات إلى الوراء، مع إثارة موضوع الهويّة الوطنية والقومية لأهل البلاد، لا سيّما مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

يختلف الأميركيون حول تعريف مفهوم الوطنية وتتناقض مشاعرهم كأمّة من المهاجرين متعدّدي الهويات والألوان والأعراق، بين الانتماء الخالص إلى الوطن الحالي؛ أي الولايات المتحدة الأميركية، وبين الحنين إلى أوطانهم الأصلية وتعلّقهم بثقافاتهم السابقة. كذلك فإنّ لتاريخ الصراعات العنصرية بين الأميركيين البيض من ذوي الأصول الأوروبية والأقليات العرقية والدينية من السكان الأصليين والأفارقة والمسلمين وذوي الأصول اللاتينية، دوراً محورياً في رسم مسارات تشكّل الهوية أو الهويات الوطنية الأميركية ومروحة اتجاهاتها بين احتمالات الوحدة والانقسام.

ويأتي السجال الدائر بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونجوم كرة القدم الأميركية من أصول أفريقية على خلفيّة اعتبار ترامب الركوع على الأرض خلال عزف النشيد الوطني إهانة وطنية لكلّ أميركي، خصوصاً للجنود الذين يضحّون بدمائهم من أجل الوطن. لكنّ وجهة النظر المقابلة ترى أنّ ركوع اللاعبين على الأرض ليس ضدّ النشيد ولا العلم الأميركي، بل يأتي احتجاجاً على التمييز العنصري ضدّ السود في مؤسسة الشرطة الأميركية وعلى مقتل عشرات الشباب من الأقلية الأفريقية برصاص رجال الشرطة البيض.

تطول لائحة القضايا الوطنية الأميركية المثيرة للجدال التي أخذ السجال حولها طابعاً عنصرياً في الأشهر التي تلت وصول ترامب إلى البيت الأبيض، من قرار منع رعايا ستّ دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة وقرار وقف العمل ببرنامج استقبال للاجئين السوريين وضعته إدارة أوباما إلى برنامج آخر لرعاية إقامة أكثر من 800 ألف من أبناء المهاجرين من أميركا اللاتينية المقيمين في الولايات المتحدة بطريقة غير قانونية.

ومن الأمثلة التي شكّلت كذلك امتحاناً للوطنية الأميركية كيفية تعامل إدارة ترامب في إطار مساعدة الولايات التي ضربتها الأعاصير هذا العام. فقد جاء ردّ الفعل على كارثة بورتوريكو مختلفاً عن ردود الفعل الخاصة بكوارث تكساس وفلوريدا ولويزيانا. وقد طُرحت علامات استفهام حول أميركية هذه الجزيرة الفقيرة التابعة بالاسم للسلطة الأميركية، والتي يحمل سكانها الجنسية الأميركية، على الرغم من أنّهم لا يشاركون في الحياة السياسية الأميركية ولا في عملية انتخاب الرئيس ولا أعضاء الكونغرس. وربما لهذا السبب، استخدم ترامب لغة "انتمائهم ونحن" خلال مخاطبته أعضاء السلطة المحلية عند زيارته الجزيرة المنكوبة قبل نحو أسبوعَين.

كذلك، واجهت أخيراً الوطنية الأميركية امتحاناً صعباً من نوع آخر من خلال مجزرة لاس فيغاس التي جدّدت السجال حول حقّ حيازة الأميركيّين السلاح الفردي وعلاقة ذلك بالهوية الوطنية الأميركية، إذ ينصّ البند الثاني من الدستور الأميركي على أنّ حقّ امتلاك الأسلحة من أجل الدفاع عن النفس والممتلكات حق مقدّس.

ضد العنصرية والكراهية في شيكاغو (بيلغين شاشماز/ الأناضول)


بطل أم مجرم؟

في سياق متّصل، احتدم الجدال مجدداً بين الأميركيّين حول كريستوفر كولومبوس الرحالة الإيطالي الذي اكتشف "القارة الجديدة" في عام 492، والذي يعدّه الأميركيون من أصول أوروبية، خصوصاً أبناء الجالية الإيطالية، بطلاً قومياً ورمزاً تاريخياً، بينما يرى فيه الأميركيون من السكان الأصليين مجرم حرب لا بدّ من إجراء محاكمة تاريخية له بسبب عمليات الإبادة التي ارتكبها بحقّ سكان أميركا الأصليين. أمّا الأميركيون من الأقلية الأفريقية فإنّهم يعدّونه المسؤول عن نقل الأفارقة من المستعمرات الأوروبية في أفريقيا وبيعهم كعبيد في الأرض الجديدة.

ورداً على الحملة المطالبة بإلغاء "يوم كولومبوس" الذي كان قد أعلنه الرئيس الأميركي الأسبق تيودور روزفلت في ثلاثينيات القرن الماضي عيداً أميركياً رسمياً تعطّل خلاله كلّ المؤسسات الفدرالية الأميركية، أكّد ترامب في بيان أصدره البيت الأبيض الاستمرار في إحياء تقاليد الاحتفال بكولومبوس واعتباره رمزاً وطنياً أميركياً.

يُذكر أنّ حملة إزالة التماثيل والأنصاب التي تمجّد كولومبوس وغيره من الرموز التاريخية الأميركية المنتشرة في عدد من المدن الأميركية قد تصاعدت على أثر المواجهات العنصرية التي شهدتها مدينة تشارلوتسفيل في ولاية فرجينيا قبل أسابيع عدّة، بين المتطرّفين البيض والنازيين الجدد المعارضين لقرار مجلس المدينة إزالة تمثال روبرت إدوارد لي قائد كونفدرالية الجنوب الانفصالية في الحرب الأهلية الأميركية من جهة، وبين المؤيّدين للقرار من المدافعين عن الأقليات والمناهضين للتمييز العنصري ضدّ السود من جهة أخرى. وكانت تماثيل كولومبوس من أبرز أهداف الناشطين اليساريين إلى جانب رموز أميركية تاريخية أدّت دوراً في حقبات العبودية والتمييز العنصري ضدّ ذوي البشرة السوداء.




وكان تقرير نشرته صحيفة "يو إس إيه توداي" قد أشار إلى أنّ الحملة ضدّ كولومبوس أثارت غضب الجالية الإيطالية ونقل عن الناشط ألفانو الذي يرأس منظمة أخذت على عاتقها الدفاع عن الإرث الإيطالي في التاريخ الأميركي قوله إنّ الحملة على كولومبوس تحاكمه على أفعال قام بها قبل القرن الخامس عشر بمعايير القرن الواحد والعشرين.

وكان قادة الجالية الإيطالية في نيويورك قد بذلوا جهوداً كبيرة لحثّ الأميركيين من أصول إيطالية على المشاركة في التظاهرة التقليدية لتكريم كولومبوس، على الرغم من انتقادات الأميركيين الأصليين والأفارقة لتاريخ كولومبوس الذي لم يعد يحظى باحترام عدد من ذوي الأصول الإيطالية، من أمثال رئيس بلدية نيويورك بيل دي بلاسيو الذي رضخ للمطالبات بإزالة تماثيل كريستوفر كولومبوس من المدينة وأعلن عن تأليف لجنة لبحث مستقبل كل الأنصاب التاريخية المثيرة للجدال، والتي يرى أميركيون كثر أنّها ترمز إلى حقبة التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأميركية. وقد أثار تعهّد دي بلاسيو غضب الأقلية الإيطالية وامتنع قادتها عن دعوته إلى المشاركة في الاستعراض السنوي الذي تشهده نيويورك احتفالاً بعيد كولومبوس، في حين اعتدى مجهولون على نصب لكولومبوس في منطقة بنغهامتون وقطع آخرون رأس تمثال له في حديقة تحمل اسمه في منطقة يونكرز. كذلك طالبت عريضة في مينيابوليس في ولاية مينيسوتا باستبدال اسم ساحة كولومبوس في العاصمة باسم برنس، المغنّي الأميركي الأسود الذي رحل قبل نحو عامَين، بينما أعلنت السلطات البلدية في عدد من المدن الأميركية ومنها بيركلي ولوس أنجليس في كاليفورنيا وفينيكس في ألاباما أنّها ألغت عيد كولومبوس وخصّصت يوم العطلة الرسمية في التاسع من أكتوبر لتكريم سكان البلاد الأصليين.

"فاشستي" (بيلغين شاشماز/ الأناضول)


"أميركا أولاً"

قبل نحو عامَين، اقتحم دونالد ترامب؛ ابن نيويورك الثري ونجم تلفزيون الواقع، الحياة السياسية الأميركية ليصل في النهاية إلى البيت الأبيض من خلال تبنّيه خطاب الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري وتحديداً التيّار الذي أطلق عيه اسم اليمين البديل. ومن أبرز رموز هذا التيّار الذي يضمّ النازيين الجدد والعنصريين الأميركيين البيض، ستيفن بانون عرّاب نظرية القومية الأميركية الاقتصادية وصاحب شعار "أميركا أوّلاً" الذي تبنّته حملة ترامب الانتخابية.

وكان اليمين القومي الأميركي المتطرّف قد استفاد من حالة الإحباط السياسي التي انتشرت في أوساط شرائح واسعة من الأميركيين البيض بعد وصول أوّل رئيس من أصول أفريقية إلى البيت الأبيض في عام 2008، وقد تصدّر ترامب حملة المشكّكين بشهادة ميلاد باراك أوباما وزعمت الحملة أنّه ليس مسيحياً وأنّه من مواليد كينيا ولم يولد في جزيرة هاواي الأميركية مثلما تذكر شهادة الميلاد. وقد رُفِعَت دعوة أمام القضاء الأميركي تتّهم الرئيس الجديد بالتزوير وعدم الأهلية لتبوّء منصب الرئاسة، إذ يشترط الدستور الأميركي أن يكون الرئيس مولوداً على الأراضي الأميركية. لكنّ فشل حملة التشكيك بشهادة ميلاد أوباما زاد حالة الإحباط والتشنّج العنصري لدى المتطرّفين البيض، ومع فوز الرئيس الأسود بولاية رئاسية ثانية تحوّل الإحباط إلى حالة هلع عنصري وخوف وجوديّ لدى البيض من احتمال تحوّلهم خلال عقود قليلة إلى أقليّة في الولايات المتحدة، في حال وفى أوباما بوعوده الانتخابية ومنح الجنسية الأميركية لملايين المهاجرين من البلدان اللاتينية. ومع وصول ترامب إلى البيت الأبيض وتعيين بانون مستشاراً استراتيجياً له حلّ الشعور بنشوة الانتصار محلّ الإحباط.

بعد مرور ثمانية أشهر من ولاية ترامب الرئاسية، فشل اليمين البديل في تحقيق أيّ من بنود أجندته القومية المتطرّفة وأسفرت المواجهة مع الإستبلشمنت (النظام) الجمهوري عن خروج بانون وفريقه من البيت الأبيض. فانتقلت المعركة حول مستقبل الولايات المتحدة الأميركية وتاريخها وكذلك الصراع حول هويتها الوطنية وقيمها، إلى خارج الكونغرس والبيت الأبيض أو المؤسسة السياسية الرسمية في واشنطن، إلى الشارع الأميركي حيث الأبواب مفتوحة على كلّ الاحتمالات.