مجتمع إسبانيا ينقسم

مجتمع إسبانيا ينقسم

16 أكتوبر 2017
عودة الروح القومية في الأقاليم (العربي الجديد)
+ الخط -
تجلس مجموعة من النساء والرجال من كبار السن يحتسون قهوتهم في سان رافائيل، على بعد 200 كلم جنوباً من عاصمة إقليم كتالونيا برشلونة، وهي المنطقة الفاصلة بين الإقليم وإسبانيا. يبرز الخلاف بينهم على الطاولة نفسها حول خطابي برشلونة ومدريد. هذا المجتمع القروي الصغير يقع بين حدود إقليمين، فالنسيا وكتالونيا، والناس فيه منقسمون بين من يؤيد انفصال الإقليم ومن يعارض بقوة وغضب.

الانفصال بالنسبة لسكان منطقة سان رافائيل سيعني "تقسيم السكان بين الحدود" على ما يقول الستيني المتقاعد بيدرو. المثير في الأمر أنّ زوجته ماريا تقول لـ"العربي الجديد" إنّها "مؤيدة للاستقلال إن أبقوا على راتب التقاعد". ينصت بقية الجالسين لآراء بيدرو ويقاطعه أحدهم بيديه يلوح بهما في الهواء في إشارة حازمة إلى موقفه.

التوجس من الحديث مع الصحافة سيد الموقف الذي لا يفضل فيه كثيرون الخوض في السياسة، لكن على هذه الطاولة يأخذ الجدل شكلاً مختلفاً: "ماذا عن رواتب التقاعد التي سمعنا أنّ الحكومة الإسبانية ستوقفها إذا ما مضى سياسيو الإقليم في عنادهم؟" يسأل بيدرو وهو متخوف من عواقب مجتمعية كثيرة على الاستقلال الكتالوني.

عند الشباب، يتردد سؤال حول مكان الدراسة الجامعية وشهاداتها والبطولة التي سيلعب فيها فريق برشلونة. إلى جانب التأمين التقاعدي ثمة تأمينات أخرى اجتماعية واقتصادية وصحية يتخوف إسبان الإقليم من خسارتها إذا ما أدى الأمر إلى خروج من المملكة الإسبانية. لكنّ الزوجة ماريا متفائلة وتقول لزوجها: "على الأقل سيستعيد الكتالونيون ثرواتهم ويقررون من يستفيد من دخلهم القومي بدلاً من أن تقرر حكومة مدريد كلّ شيء". سرعان ما يتدخل السبعيني مانويل الذي يضع نظارته الشمسية بعدما أنصت باهتمام: "هل تريد لإسبانيا أن تصير مجتمعاً مفتتاً، فنحتاج إلى عبور حدود بين أراضيها؟". يستطرد سريعاً بنبرة حادة "أيّ انفصال سيعني أنّنا أمام أمة مقسّمة كما قسمت يوغسلافيا وبعض دول أوروبا الشرقية والسودان. وستهبّ أقاليم أخرى لطلب الانفصال عن البلاد، ونمسي في كارثة حقيقية. يجب التروّي ومحاولة فهم أين ستقودنا سياسة التشدد القومي".

الغريب أن يأخذ مانويل السودان مثلاً، ولدى سؤال "العربي الجديد" يتبين أنّ هذا الشخص، بالرغم من أنّه يعيش في الريف فهو مطلع بشكل مذهل على تجارب الشعوب الأخرى. يتفق مانويل مع زوجة صديقه ماريا التي تقول في مراجعة حسابات في ما يبدو: "لا شك أنّ مدريد ستغري الشركات والبنوك للانتقال من كتالونيا، وستعاقب الإقليم بمجموعة من القرارات التي ستنعكس سلباً علينا جميعاً، لكنّ ما أخشاه أكثر هو الانقسام المجتمعي الذي يمكن أن يجعل من الإسبان أخوة أعداء"

يذكر هذا الجدل بالقرب من حدود الإقليم الكتالوني بما يجري في العمق الإسباني، ففي الأندلس، وتحديداً في مدينة ألاورين لا غراندي يتخذ النقاش بين مجموعة من الشبان شكلاً شبيهاً، وإن أضيفت إليه مخاوف أخرى. فحين تستطلع "العربي الجديد" آراء مجموعة من الأصدقاء تبرز الخلافات أيضاً في الموقف من استقلال كتالونيا.

على مقربة من الشرطة (العربي الجديد)
 

يعتبر ديفيد أنّ "حق تقرير المصير شيء مقدس ولا مشكلة عندي أبداً أن تستقل كتالونيا، فالمهم أن نبقي على علاقة جيدة ولا نتحول إلى حدود عدائية". المقلق عند صديقه خافيير "أبعد من احترام حق الناس في اختيار مصيرها، فكيف يمكنك أن تفرض استقلالاً اعتماداً على نسبة 90 في المائة من المصوتين في استفتاء لم يشارك فيه أكثر من 42 في المائة من الأهالي؟ أين العشرة في المائة من المصوتين؟ وأين الثمانية والخمسون في المائة الآخرون؟ ماذا عنهم؟ أرى أنّ هذه ليست ديمقراطية بل تعصب ومحاولة ليّ ذراع الإسبان".



في العودة إلى سان رافائيل حيث يلتقي كبار السن على مناقشة "الاستقلال" فإنّ الخلافات البارزة بين أفراد هذا المجتمع الصغير تعبر عما هو أوسع في إسبانيا. لكن، ما يتفق عليه هؤلاء، بعد أن تهدأ حدة الجدل ويخف الغضب، أسئلة تتعلق بالحياة اليومية والمعيشية للناس. فبالرغم من أنّ ماريا تؤيد الاستقلال، على عكس موقف زوجها، إلّا أنّها تتفق على المخاوف الكبيرة حيال عدد من القضايا: "إذا ما مضى سياسيو كتالونيا في فرض إعلان الانفصال، وتشكيل جمهورية (تقولها مع ضحكة تبين لاحقاً أنها ناجمة عن معارضتها أن تكون إسبانيا مملكة) ففي منطقتهم، المحاذية لكتالونيا وفالنسيا، ستُفرض حدود انفصالية تقسمهم في منتصفها حيث سيكون المجلس البلدي وأكبر جزء من الأرض في القسم الإسباني.

من بين المخاوف، تبرز مسائل تتعلق بحياة الناس الأساسية  (العربي الجديد)

من بين المخاوف، تبرز مسائل تتعلق بحياة الناس الأساسية من الماء إلى الكهرباء والطرقات وحتى الرمز الهاتفي والتأمينات التقاعدية وانسحاب البنوك والشركات والخشية من هجرة المشاريع التي تشغل اليد العاملة. أما عن السياحة فهؤلاء يخشون ليس على منطقتهم فحسب، بل على كلّ إسبانيا، إذ ثمة قلق من انعكاسات الانفصال على الكيفية التي ستكون عليها الصناعة السياحية للمجتمعات المحلية الإسبانية.

ينتقد الشاب الجامعي خافيير من ألاورين لا غراندي ما يسميه "تقسيم الإسبان في القرن الحادي والعشرين في الوقت الذي تبحث فيه الأمم عن تكتلات لتحيا". يعلق: "أحمّل النخب السياسية نتائج ما يجري، النخب في كتالونيا ومدريد تتلاعب لكسب الشارع، وبالتالي خلق انقسامات مجتمعية ليست في مصلحة إسبانيا عموماً، ولا حتى في مصلحة التفاوض على امتيازات اقتصادية لمصلحة كتالونيا. كان في الإمكان تغيير الدستور من دون الحاجة إلى كل هذا اللغط لإضعافنا وجعل مجتمعنا منقسما". يشير خافيير في هذا الاتجاه إلى مطالب تعديل الدستور، إذ يتهم الكاتالونيون، ليبراليين وديمقراطيين ويساريين، سياسيي مدريد بممارسة "مركزية شديدة" بالاعتماد على دستور عام 1978. كذلك، يتهمون "رجال حقبة فرانسيسكو فرانكو (جنرال حكم إسبانيا من عام 1939 حتى 1975) بتصميمه الدستور لتبقى مدريد هي المهيمنة في نواحي الحياة الإسبانية" والقصة الأخيرة لها جوانبها التي تثير حنق كثيرين في كتالونيا وبقية أقاليم إسبانيا.