مصر ومصير الأقباط... وضع صعب مصدره التمييز (7/ 8)

مصر ومصير الأقباط... وضع صعب مصدره التمييز (7/ 8)

02 أكتوبر 2017
من أهل الصعيد (أحمد إسماعيل/ الأناضول)
+ الخط -

لم يكن الأقباط في مصر في أيّ مرحلة سابقة راضين تماماً عن السياسات الممارسة تجاههم، لا سيما في ما يتعلق بحقوقهم الدينية، لكنّ المرحلة الحالية هي الأخطر عليهم، ما يتجلّى في الهجرة المتزايدة.

هناك تساؤلات رئيسية تطرح نفسها لدى البحث في وضع الأقباط في مصر: ما هي طبيعة وأولوية العوامل المؤثرة على وضع هذه الفئة راهناً؟ هل هو البناء السياسي كما آلت إليه الأوضاع بعد الثورة في محطاتها المتعددة، بدءاً من الرئيس حسني مبارك وصولاً إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي مروراً بالرئيس محمد مرسي؟ أم الوضع المجتمعي وسط تشابكات وتعقيدات كبرى، أبرز ما فيها عملية نمو ظاهرة الخطاب الديني المتشدد وصولاً إلى الفكر والإرهاب السياسي المتفلّت من عقاله، وطبيعة مواقف القوى والمرجعيات الرسمية والدينية والمناخات الشعبية وسط حالة غير مسبوقة لجهة استحكام الأزمة على صعيد البلاد والمنطقة على حد سواء؟

كتلة كبيرة

المعروف عن المسيحيين المصريين أنّهم يمثّلون المجموعة المسيحية الكبرى في المشرق العربي، والأرجح أنّ عددهم قد يتجاوز عدد كلّ المسيحيين في منطقة الشرقين الأدنى والأوسط على حدّ سواء. وبالرغم من أنّ نسبتهم داخل المجتمع المصري هي من الأعلى بين الأقليات المسيحية في الدول العربية - باستثناء لبنان - إلّا أنّ وضعهم قد يكون الأصعب، على الرغم من أنّ مصر لا تمرّ بالظروف التي يمرّ بها المسيحيون في كلّ من: فلسطين والعراق وسورية لجهة انفلات الصراع وتعدد الأطراف المشاركة إقليمياً ودولياً وداخلياً وتجاوزه كلّ الخطوط الحمر التي تضبط صراع الجماعات في المجتمعات البشرية. فالنظام في مصر، على الرغم مما يعانيه من تهتك في حضوره الدولي والإقليمي ومن ظواهر الأزمة الداخلية الضاغطة عليه، ما زال فاعلاً إلى هذا الحد أو ذاك، وهياكل الدولة وأجهزتها المختلفة ما زالت قائمة وتمارس دورها، والمؤسسات الأمنية والعسكرية ما زالت مهيمنة وقوية بالرغم من الخسائر البشرية والمادية والمعنوية الناجمة عن العمليات التي تستهدفها والانفجارات التي تحدث هنا وهناك، وهذه تدل بوضوح على هشاشة ظاهرة للعيان.

الكتلة القبطية في مصر تشكو من تمييز يستهدفها، ويشمل كل الصعد من دون استثناء تقريباً، خصوصاً عندما نتحدث على المستويين السياسي والشعبي. بالطبع لا يتوقف الأمر على ما تشهده العاصمة وبعض المدن والأرياف من أحداث أمنية كمسلسل التفجيرات الذي استهدف مراكز دينية وبعض المنازل والمحال التجارية والتعديات المتعددة، بل هناك ما يشبه السياسة الممنهجة التي تقف أمامها السلطة عاجزة أو غاضة الطرف عن مناخات التطرّف التكفيري الذي يحيل مبدأ الحريات الدينية إلى مجرد كليشيه فارغ، كما يتجلّى ذلك على صعيد عملية ترميم المباني الدينية القديمة، ومن فرض القيود الصارمة على بناء كنائس جديدة، وحتى بناء مراكز اجتماعية تابعة لبعض الجمعيات المدنية أو الكنيسة نفسها انسجاماً مع النمو السكاني الطبيعي للأقباط مثلهم مثل باقي السكان في مصر.

 تندب ضحايا تفجير الكاتدرائية (محمد الشاهد/ فرانس برس) 


محاصصة ظالمة

تبعاً لتقديرات الكنيسة المرقسية القبطية، فإنّ المسيحيين يشكلون نحو عشرة في المائة من تعداد المصريين البالغ عددهم نحو 94 مليون نسمة (تقديرات 2016)، وغالبيتهم الساحقة من الأقباط الأرثوذكس ولهم مرجعيتهم الخاصة بوصفهم طائفة قائمة بذاتها كنسياً. لكنّ هذا التقدير تقابله الإحصاءات الرسمية التي تشير إلى أن نسبتهم لا تتجاوز الستة في المائة من السكان. مع ذلك، تُعاني هذه الأقلية بحدّيها الأقصى والأدنى من حال من التهميش السياسي، بالمقارنة ما بين نسبتها من السكان ونسبة تمثيلها في المؤسسات الدستورية والحكومية والإدارية والقضائية المصرية. فمثلاً من أصل 454 نائباً هم عدد أعضاء مجلس الشعب المصري، وهو السلطة التشريعية الأولى في البلاد (البرلمان)، هناك ستة نواب أقباط مسيحيين فقط. لكنّ عدد الستة هذا يحمل مفارقة، إذ إنّ واحداً منهم فقط منتخب على اللوائح المتنافسة، بينما هناك خمسة منهم نواب بالتعيين. وإذا كانت الحكومة تضم وزيرين مسيحيين من أصل أربعين وزيراً، فإنّ حضور المسيحيين في المناصب الإدارية العليا وفي مواقع النفوذ الاقتصادي، أفضل نسبياً. لكنّ هذه النسبة تتضاءل كثيراً في الجسم القضائي والأجهزة العسكرية والأمنية.

وينتمي الأقباط إلى الترسيمة الطبقية في المجتمع المصري لجهة وجود طبقة برجوازية قديمة ومتجذرة تعمل في التجارة استيراداً وتصديراً وفي الخدمات والصناعة. وقد تشكّلت هذه الطبقة في مرحلة الحكم العثماني والاستعمار الإنكليزي وصولاً إلى المرحلة التي سبقت ثورة يوليو/ تموز 1952. وهناك طبقة وسطى لا يستهان بوزنها وهي نتاج مراحل التحديث التي عرفتها مصر في العصر الحديث والمراحل اللاحقة وتتمثّل هذه الطبقة بأساتذة جامعيين وأطباء ومهندسين وأصحاب مهن مرموقة ومن مديرين تنفيذيين لدى شركات أجنبية ووطنية. أما الطبقة الفقيرة، وهي أكثر فقراً من مثيلتها لدى المسلمين، فتنتشر في المدن والأرياف؛ في الأولى تعمل في مهن ووظائف صغيرة محدودة الدخل ومهن هامشية، أما في الأرياف فتمتهن إجمالاً الزراعة وما يرتبط بها من أنشطة إنتاجية أو تجارية وتفتح المتاجر الصغيرة والحرف المتواضعة وما شابه من مصادر دخول محدودة. ولا يختلف الأقباط عن باقي المصريين لجهة كثافة الطبقة الفقيرة بالمقارنة مع الطبقتين الوسطى والبورجوازية. وبالطبع، تأثر هذا البناء بالظروف السياسية والاقتصادية التي مرّت على مصر. وقد طرأت تعديلات على وزن كلّ من الطبقات الثلاث توسعاً وضموراً بالعلاقة مع المرحلة التي يشهدها الاقتصاد المصري ازدهاراً أو انكماشاً. وقد لعب الأقباط في المراحل السابقة من عمر مصر أدواراً مؤثرة، وكانت لهم مواقع مهمة في شتى الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية بالنظر إلى ما تمتّعوا به من مزايا ثقافية جعلتهم بمثابة صلة وصل مع الثقافات والمجتمعات والدول والشركات الغربية. وقد عزّز من وزنهم "المسيحيون الشوام" الذين ساهموا خلال انتقالهم إلى مصر هرباً من البطش العثماني في رفد الحياة الأدبية والفنية بكثير من الرموز الوازنة.

في احتفالات الميلاد (محمد الشاهد/ فرانس برس) 


استبعاد يوليو

ساهم الأقباط بزخم في مجرى النضال من أجل انتزاع الاستقلال من بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وانخرطوا في الأحزاب السياسية وشغلوا مواقع قيادية فيها. وقد برزت خلالها نزعة قومية عربية مصرية قائمة على المبادئ الوطنية اللاطائفية. وبالنظر إلى مقدراتهم الثقافية والفكرية والعلمية أسند إليهم حزب الوفد في حكوماته وزارات مهمة مثل الخارجية والمال. وانتخب، بين عامي 1928 و1931، القبطي ويصا واصف رئيساً لمجلس النواب (البرلمان) شاغلاً بذلك الموقع الثاني في قرار البلاد بعد الملك.

وعندما انطلقت ثورة الضباط الأحرار عام 1952 لم يكن للأقباط حضور بين صفوف ضباطها، حتى إنّهم بدوا في مرحلتها الأولى وكأنّهم قد خرجوا من المشهد واللعبة السياسية الوطنية، خصوصاً أنّ أركان العهد الجديد أظهروا نوعاً من السلبية ضد النخب السياسية والاقتصادية القبطية ووصموها بأنّها مرتبطة بالاستعمار وشركاته الأجنبية ومع الفئات الرجعية في الداخل. وقد تكرّس الموقع الطرفي للأقباط في الميثاق الذي وضعه جمال عبد الناصر وما تضمنه من نظرية الدوائر الثلاث لتحرك الثورة (الدائرة الأولى العربية، الثانية الأفريقية، والثالثة العالم الثالث)، على أنه لم يستهدف الأقباط أو يضطهدهم، وتابع عملية تعيين وزراء أقباط في الحكومة، ومديرين منهم في مواقع مهمة من الإدارة المصرية، وكذلك تعيين عشرة نواب مسيحيين في مجلس الشعب. لكنّ سياسة علمنة الدولة أدّت إلى إلغاء مجالس الملّة والمحاكم الروحية، وبالتالي ضربت الأطر التي يعتبرها الأقباط حفظت وحمت هويتهم الخاصة. وقد لاقت خطوة عبد الناصر وحربه المفتوحة على التيارات الإسلامية المتشددة، لا سيما بعد محاولة اغتياله على أيدي جماعة الإخوان المسلمين، ارتياحاً لدى الأقباط، بالإضافة إلى ما لاقته عمليات التأميم وإجراءاته الاشتراكية من تأييد شرائح قبطية، ورفض وإدانة من شرائح متضررة أخرى كما حدث في عموم المجتمع المصري.

تسلّم الرئيس أنور السادات زمام السلطة فأطلق سياسة الانفتاح، وكانت محاور سياسته الاقتصادية وبعض تدابيره الإدارية، ومنها عودة مجالس الملة، قد أعادت للأقباط جزءاً من كيانهم. لكنّ تعزيزه دور الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية مع توقيعه اتفاقية "كامب ديفيد" مع إسرائيل والاعتراف بها، وعلاقاته مع الدول الغربية، قاده في الجانب الموازي إلى مهادنة الإخوان المسلمين في مصر ومحاولة استمالتهم إلى عهده واستعمالهم لقمع الوطنيين والقوميين واليساريين. وقد صدرت في عهده تشريعات تستوحي التقليد الإسلامي، وتعتبر الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع، بدلاً من أن تكون أحد مصادر التشريع كما كانت سابقاً.

صلاة في الفصح (خالد دسوقي/ فرانس برس) 


قبل يناير وبعده

ثم جاء الرئيس حسني مبارك كامتداد لعهد سلفه، فطرأ تحسّن على أوضاع رجال الأعمال الأقباط من دون أن يصحب ذلك تحسن في أوضاع الفئات القبطية الوسطى والفقيرة، إذ لم يشهد عهده إصلاحات جدية على المستوى السياسي والاجتماعي. المرحلة اللاحقة منذ عام 2011، والتي تخللها وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم بعد انتخاب الرئيس محمد مرسي، ثم تبعه الرئيس عبد الفتاح السيسي، لم تتبلور بعد في مخططات وسياسات معتمدة، إلّا أنّ المهم فيها هو انفلات الجماعات التكفيرية التي تصبّ جام غضبها على المؤسسة العسكرية والأمنية المصرية، وعلى الأقباط كجماعة أهلية. ولعلّ إحراق عشرات الكنائس في أجزاء متعددة من البلاد يؤكد طبيعة المخاطر التي يتعرض لها الأقباط الذين تتهمهم هذه الجماعات بالمشاركة مع ملايين المصريين في إزاحة الرئيس مرسي عن سدة الرئاسة، ما يستوجب عقابهم وإذلالهم بفرض الجزية عليهم في حال عدم استجابتهم لدعوة الإسلام.

تبعاً للأوضاع المتفجرة في مصر، تحديداً في أجزاء منها أكثر من غيرها، تبرز الآن معالم الحرب الأهلية التي قد تقود إلى تفريغ مصر من الأقباط المسيحيين أيضاً. والملاحظ في السنوات والعقود الأخيرة هو تصاعد حدة هجرتهم إلى الدول المتاحة، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأوروبا الغربية وغيرها.

على الرغم من أنّ الدستور المصري يؤكد على حرية المعتقد وأنّ الدولة توفر لأبناء الديانات التوحيدية حرية ممارسة شعائرهم الدينية من دون قيود، لكنّه ينص في المقابل على أنّ دين الدولة هو الإسلام. كذلك، هناك كثير من العوائق القانونية ما زالت كامنة في التشريعات وتحول دون ممارسة الحريات الدينية، لكنّ الأشد قسوة يتمثل في المسارات المجتمعية التي تدفع الأفكار الدينية المتطرفة نحو مزيد من التشدد، ما يهدد النسيج المجتمعي المصري بالانفجار. النُذر كثيرة والمعالجات البوليسية لا تجدي ولا تقدّم حلاً لمسائل لا يمكن أن تعالج إلّا بمكافحة كلّ أشكال التمييز التي تندفع بقوة تدميرية تهدد بمآلات تشابه ما هي عليه في دول عربية عدة. فإلى جانب الفشل في عمليات الاحتواء عبر المعالجات الأمنية، ما زالت قضايا عدة عالقة في أدراج البرلمان المصري مثل قانون بناء وترميم الكنائس الجديد، حتى إنّ بعض عمليات الترميم التي بوشر بها توقفت ولم تستكمل بنتيجة رفض جماعات إسلامية لها، فضلاً عن تحول هذا الرفض إلى أعمال عنف أحياناً. مع ذلك، هناك مبادرات إسلامية إيجابية لا بدّ من الإشارة إليها مثل حراسة سكان الأحياء المسلمين الكنائس في الإسكندرية وغيرها، خصوصاً خلال الاحتفالات والمناسبات الدينية.

باتت هناك ضرورة ملحة لوضع طبيعة العلاقة بين الدولة المصرية والكنيسة القبطية على الطاولة ومناقشتها بعمق، خصوصاً مع انخراط فئات من الأقباط في مجرى التيارات السياسية الناشطة، ثم دراسة أسباب وعوامل ارتفاع منسوب التوترات السياسية والطائفية في البلاد في ضوء تغير القيادة الدينية للكنيسة الأرثوذكسية، واستمرار نمو وشراسة بعض قوى تيار الإسلام السياسي، ووصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم وإبعادهم عنه، ودور الأقباط في "الثلاثين من يونيو".

لكن يبقى الأهم هو ربط كلّ ذلك بواقع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية المصرية التي لا يمكن أن تبقى خارج إطار النقاش، خصوصاً أنّ الاعتماد على المساعدات والقروض والديون من البنك الدولي وغيره هو أقصر الطرق نحو الوقوع في فخ هاوية لا خروج من حبائلها.

*باحث وأستاذ جامعي