دعوات الانفصال في أوروبا: المجتمع الكتالوني ليس وحده

دعوات الانفصال في أوروبا: المجتمع الكتالوني ليس وحده

01 أكتوبر 2017
خشية من تأثير الاستفتاء على الحركات الانفصالية الأوروبية(دان كيتوود/Getty)
+ الخط -


لم يكن تنامي الدعوات الانفصالية في أوروبا وليد الساعة. وإذا كان إقليم كتالونيا الإسباني الأكثر إثارة للقلق اليوم؛ فإن أوروبا، التي تعاني مجتمعاتها من فرز واضح على صعيد تنامي المشاعر القومية، ومن دعوات الانغلاق المناهضة لدعوات الانفتاح، وتزايد قوة مجموعات داعية للخروج من منظومة الاتحاد الأوروبي تحت شعار "السيادة الوطنية في خطر"؛ لديها حالات أخرى غير الحالة الكتالونية.

ويبدو أن الخوف الأوروبي من انعكاس قوة رياح الحركة الداعية للاستقلال والانفصال في الإقليم الإسباني على أقاليم أوروبية أخرى يفسر برود النخب السياسية والمجتمعية، وخصوصًا المؤيدة لبقاء التكتل الأوروبي بدون تغيير للخرائط القومية. ذلك على الأقل ما يراه متابعو "البرود الأوروبي" تجاه دعوات الانفصال. ويرى قوميون أقلويون أوروبيون أن رياح كتالونيا الداعية للانفصال قد تجري في الاتجاه الذي تشتهيه مراكبهم.

تتسع الدعوات الانفصالية المثيرة للجدل في المجتمعات الأوروبية، مع وجود رغبات انفصالية أخرى في زوايا القارة العجوز، من غربها حتى أقصى شرقها، حيث تهيمن روسيا على عدد من القوميات الراغبة بالانفصال، إضافة إلى دعم موسكو لانفصاليي شرق أوكرانيا. صحيح أن الأمم المتحدة تعترف دولها بأكثر من 192 دولة، إلا أنه لو جرى بالفعل ترك القوميات تقيم دولها المستقلة لأصبح العدد أكثر من 400 دولة، وهنا يمكن قراءة أهم الدعوات الانفصالية الأوروبية:


غرينلاند

إذا ما بدأنا من أقصى الشمال الأوروبي، حيث جزيرة غرينلاند المحكومة من الدنمارك، فثمة دعوات متنامية لسياسيين وحركات اجتماعية من أجل إجراء مفاوضات لاستقلال الجزيرة الجليدية الأكبر شمالًا، وبعدد سكان لا يتجاوز 60 ألف نسمة، عدا عن آلاف انتقلوا للعيش في مدن جزر الدنمارك. ويبرز اسم فيتوس كوجاوكتسوق، من حزب "سيموت" في العاصمة نووق، الحزب الأكبر في الجزيرة، بدعواته المتواصلة لمنح الغرينلانديين حق تقرير مصيرهم. ويذهب فيتوس منذ سنوات لإرسال رسائل للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان تنتقد بشدة رفض الدنمارك منح غرينلاند كامل الصلاحية لنقل الحكم الذاتي إلى استقلال وطني. ثمة شكاوى عديدة لمجلس حقوق الإنسان حول التمييز وحقوق السكان الأصليين خلقت انقسامًا بين الدنماركيين والغرينلانديين. وزادت في السنوات الأخيرة هذه الدعوات الانفصالية لتزيد معها أصوات الداعين لتقرير المصير والاستقلال عن التبعية لكوبنهاغن.

شمال إيطاليا

ترى نسبة لا بأس فيها من الإيطاليين الشماليين بأنها لا تنتمي لإيطاليا. وتنشط بين أولئك الشماليين حركات وأحزاب انفصالية، ولعل "رابطة الشمال" الأقوى بين الداعين لانفصال وسط وشمال إيطاليا لتشكيل دولة خاصة تحت اسم "بادانيا". وتشمل هذه المنطقة، وسط وشمال البلاد، حوالى نصف جغرافية إيطاليا، ويعيش فيها ما يقرب من 34 مليون إنسان.


يؤمن الداعون للانفصال بأفكار قومية متشددة، ترى في شعب وسط وشمال إيطاليا بأنه ليس مثل بقية الإيطاليين. وفكرة "بادانيا" (أي إقامة دولة شمالية مستقلة) تقسم الإيطاليين، وحتى القاطنين في تلك المناطق؛ ففي حين تعبّر الحركات الاجتماعية والأحزاب الصغيرة عن رغبتها في أن تكون لها وضعية خاصة داخل إيطاليا، تذهب جماعة "رابطة الشمال" إلى الإعلان الصريح عن الرغبة بإدخال تغييرات دستورية تمنح القاطنين في تلك المناطق حق التصويت على تقرير المصير. وليس بغريب أن تتخذ "رابطة الشمال" قضايا الهجرة، وتزايد النقمة بين الأثرياء من سياسات استقبال هؤلاء، كأحد متاريسها في بث خطاب قومي متشدد يحمّل روما مسؤولية دعواتها الانفصالية. جرت محاولات عديدة للتصويت الانفصالي، واستغلالًا للتطور التقني، عبّر كثير من إيطاليي الوسط والشمال عن رغبتهم بالانفصال بتصويت إلكتروني في أكثر من مناسبة.



بلجيكا

حتى العام 1830 كانت بلجيكا جزءًا من هولندا، وتصارعت على أرضها عدد من القوى الأوروبية. أهل الجنوب البلجيكي لم يكن يعجبهم التحدث بالهولندية. ومنذ انفصال بلجيكا بالثورة على هولندا، بات المجتمع البلجيكي مقسمًا بين مجموعتين لغويتين: الهولندية والفرنسية، بالإضافة إلى أقلية بسيطة تتحدث الألمانية.

وكثيرًا ما عانت عاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسل من مشاكل توافق على حكومات اتحاد وطني بسبب الخلاف العميق. وبالرغم من أن بلجيكا مملكة اتحادية، فإن مشاعر الانفصال القومي ترتفع وتنخفض بحسب الظروف الذاتية والمحيطة. وتعتبر بلجيكا نموذجًا للانقسام الإثني اللغوي في القارة الأوروبية، بعد أن كان ينظر إليها كأحد المجتمعات الأكثر دلالة على التعايش بين الإثنيات.

فمن بين 11 مليون إنسان، يشكلون الديموغرافيا البلجيكية، نجد الكتلة السكانية الأكبر الناطقة بالهولندية، بنسبة تتراوح بين 55 و58 في المئة. وليست الاختلافات عن الكتلة الثانية، الناطقة بالفرنسية، ذات أصل لغوي فحسب؛ ففي حين يرتبط ناطقو الهولندية في الشمال، الفلامانيون، بطابع بروتستانتي ساكوسني وبثقافة الشمال الأوروبي، نجد أن ناطقي الفرنسية جنوبًا، وهم لا يزيدون حسب الأرقام الرسمية عن 32 في المئة، يرتبطون أكثر بالطابع اللاتيني والكاثوليكي لفرنسا وثقافتها. تنشط بين الطرفين مجموعات وأحزاب قومية متشددة تدعو إلى الانفصال وتقرير المصير، كما أن الجنوب والشرق يرغبان في الالتحاق بفرنسا، ما يشكل كابوسًا حقيقيًا مستمرًا في انقسام المجتمع البلجيكي.

اسكتلندا

منذ أن أصبحت اسكتلندا جزءًا من الوحدة البريطانية في 1707، كانت هناك دعوات انفصالية وتحررية، وظلّت الحركات القومية الانفصالية هناك تقوى وتضعف وفقًا للظروف الموضوعية. وإن كانت الدعوات إلى الاستفتاء تقسّم أيضًا المجتمع، بين معارض ومؤيد للاستقلال، فإن السنوات الأخيرة، وخصوصًا في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تشعر الحركات الداعية للاستقلال بأن شوكتها تقوى، وأن الرياح تسير في الاتجاه الذي تشتهيه، رغم كل التهديدات البريطانية. تزايدت دعوات الاستفتاء في 2017، عبر التخطيط لاستفتاء كبير في 2021، أي بعيد الانتهاء من مفاوضات الخروج البريطاني الكلي من الاتحاد الأوروبي.


حصلت اسكتلندا على برلمانها الخاص بها في 1999، بعد أن اتخذت حكومة وبرلمان لندن قرار حكم ذاتي لويلز واسكتلندا. ويعتبر "الحزب الوطني الاسكتلندي" (إس إن بي) الأقوى مطالبة بالاستقلال منذ تشكيله الحكومة المحلية في 2007، وتوصل مع لندن في 2013 لاتفاق على استفتاء شعبي جرى في 2014؛ فصوّت 55 في المئة بمعارضة الخروج من تحت عباءة لندن. وبالرغم من ذلك، بقي الحزب الوطني يكرر رغبة الشعب الاسكتلندي بالانفصال، مشهرًا قضية الاستفتاء بشكل دائم في وجه بريطانيا وحكوماتها. ويبدو الاختلاف واضحًا بين البريطانيين والاسكتلنديين؛ ففي الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، صوّت 62 في المئة من شعب اسكتلندا للبقاء في الاتحاد، ما يعكس، بحسب الراغبين بالانفصال عن بريطانيا، رغبة الشعب في الاستقلال. ويبقى البرلمان الاسكتلندي رافعًا لدعوات الانفصال رغم حدة الخطاب البريطاني، وعواقبه الكارثية على "المملكة المتحدة"، والخوف من تشظي ما بقي من "بريطانيا العظمى".

الباسك

وإلى جنوب القارة، في إسبانيا التي تثير هذه الأيام اهتمام المجتمعات الأوروبية، نجد حركات انفصاليي "أرض الباسك" على الحدود مع فرنسا. ويرى القوميون الباسكيون بأنهم عانوا بشكل كبير تحت حكم "الديكتاتورية الفرانكوية". ومنذ أن اعتلى الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو الحكم، حتى السبعينات من القرن الماضي، برزت الحركات القومية الثورية الداعية لانفصال الباسك عن إسبانيا. وبالرغم من أن حركة "إيتا" توقفت عن الكفاح المسلح لتحقيق الاستقلال، بعد "وقف إطلاق النار الدائم" في 2011، فإن دعوات الانفصال التام، بعد الحصول على حكم ذاتي وهيمنة القوميين على الحكومة المحلية، لم تتوقف. فتأييد الانفصال يجمع بين القوى والحركات المجتمعية والسياسية والنقابية والفكرية في أرض الباسك، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ومنذ 2008، اشتد عود المطالبة بالانفصال التام إثر منع الحكومة المركزية والمحاكم في مدريد ذهاب ما يقارب مليوني باسكي لاستفتاء استرشادي حول الاستقلال، خشية من أن يولّد هذا الاستفتاء ما يسمى "الانفجار العظيم" للمجتمع الإسباني ككل، بوجود مشاعر انتماء جغرافي وقومي متزايدة.


كتالونيا

وعلى خلفية تلك المخاوف الكبيرة بين مكونات سياسية ومجتمعية في إسبانيا من تشظي المملكة إلى كيانات مستقلة، تبرز معارضة إسبانيا للاستفتاء في كتالونيا، كما في الباسك وغيره. فمطالب الاستقلال الكتالوني، وإن كانت ليست بجديدة، تثير المخاوف إقليميًا لطبيعتها القومية واضحة المعالم من حيث الجغرافيا واللغة والإثنية. بل إن أهمية التفاف اليسار والمحافظين على فكرة الاستفتاء، سواء نجح أو فشل، ترعب قوى سياسية محلية مرتبطة بمصالح مباشرة مع مدريد. ومع الوقت، تقوى شوكة المنظمات الأهلية الكتالونية التي في يوم العيد الوطني "دياذيان"، في 11 سبتمبر/أيلول، أمام حشد من عشرات الآلاف في عاصمة الإقليم برشلونة، لإجراء استفتاء الأول من أكتوبر/تشرين الأول.


معارضة مدريد، بما تحملها من انعكاسات بينة لاختلاف مكونات مجتمع إسبانيا، ليست معارضة جديدة أيضًا؛ ففي 2009 و2014 جرى استفتاءان غير رسميين في كتالونيا حول الانفصال عن إسبانيا، ولم تعترف بهما المحكمة الدستورية الإسبانية، وهو ما تسلّحت به مدريد بالنسبة لاستفتاء الأول من أكتوبر/تشرين الأول، لكن هذه المرة بوضوح شديد لمواجهة أعمق مع مكونات الحكم المحلي ومنظمات المجتمع الكتالوني. ويرى المراقبون أن التجاذب بين المركز والإقليم، ومنع الكتالونيين من التعبير عن تطلعاتهم القومية تلافيًا لتشظّي إسبانيا، سيسهم في دفع التشظي نفسه، مع تقوية شوكة الحركات القومية، واعتبار سياسة مدريد "قمعًا لحرية كتالونيا".

انعكاسات على وحدة أوروبا؟

تتخوف قوى مجتمعية عديدة في الاتحاد الأوروبي من أن انفصال أي إقليم من الأقاليم، وخصوصًا في غرب وشمال أوروبا، يعني ضربة قاصمة للمشروع الأوروبي؛ فالخشية هنا ليست من انفصال بضعة ملايين عن الدولة، إنما من "نفخ نار الانفصال في بقية الأنحاء". ويستشهد أصحاب تلك المقولة بيوغسلافيا السابقة وأوكرانيا وأوروبا الشرقية، ويسوقون فكرة "تأثير الدومينو" للتحذير من مآلات الأقاليم والشعوب في إيطاليا وبلجيكا وألمانيا واسكتلندا وفرنسا (في كورسيكا تحديدًا) التي ستتأثر بدعوات انفصالية تضعف قوة الاتحاد الأوروبي دوليًا، وتشغل مجتمعاته بمشكلات كان من المفترض أن تحلها دساتير دول المواطنة والديمقراطيات العريقة.


لكن يبدو أن المشاعر القومية المتصاعدة في عدد من مجتمعات القارة الأوروبية لم تتمكّن من وقفها كل تلك التحذيرات، ولا يرفع كثيرون هنا "نظرية المؤامرة"، بقدر ما يقدمون خطابًا يحذر من عودة أوروبا إلى حالة التشظي السابقة لتاريخ نشأة الاتحاد الأوروبي نفسه. لا أحد يتوهم بأن منع الحكومات المركزية لاستفتاء هنا وهناك سيوقف تقدم الحركات الانفصالية، التي يمكن أن يستعاض عنها بالتصويت على أسس قومية في أية انتخابات عامة تشهدها المجتمعات الممنوعة من الاستفتاء على الانفصال، ما سيربك ويعمق الانقسام في المجتمعات.

وأخيرًا، يرى آخرون بأن مسألة المشاعر القومية في صفوف الحركات الانفصالية ليست سوى غطاء لمشاكل أعمق في توزيع الثروات واختلال تحمل الضرائب والفوائد الذاهبة إلى المراكز أكثر من الأقاليم، إذ ترى بعض القوى القومية أن مجتمعاتها تتحمل، أكثر من أقاليم أخرى، أعباء لم يجر توزيعها بشكل عادل. وتعبر الحالة الإيطالية شمالًا عن ذلك بشكل صريح أكثر من ما تجسّدة حركات انفصالية أخرى في إسبانيا وبلجيكا.