العودة إلى فلسطين حتميّة

العودة إلى فلسطين حتميّة

08 اغسطس 2016
يحمل مفتاح العودة (العربي الجديد)
+ الخط -
كان في السابعة من عمره حين خرج من عكا. مع ذلك، ما زال قادراً على تذكّر بعض التفاصيل من سنيه هناك. في ذلك الوقت، قيل له إنّ البعد عن عكا لن يدوم طويلاً، مدة أسبوعَين اثنَين فقط ويعود إلى بيته وأصدقائه. اليوم، تجاوز السبعين من عمره ولم يرجع بعد.

يحتفظ بمفتاح بيته في فلسطين الذي تركه له والده إلى حين العودة. لكنّه لا يعلم إن كان سوف يعود إلى بيته في فلسطين، أو يموت في مخيّم اللاجئين في لبنان، ويُدفن في أرضٍ غريبة. يقول إنّ فلسطين سوف تعود إلى أهلها في النهاية، وربّما يرجع أولاده أو أحفاده إليها. لذا، لن يرمي المفتاح، بل سوف يعطيهم إياه.. ربّما يموت قبل تحقيق الحلم الذي طال انتظاره.

هرب رشيد محمد الولي من فلسطين على أمل العودة إليها بعد أسبوعَين. حينها لم يظنّ أهله أنّه طردوا بالفعل من أرضهم. يقول إنّ "الصهاينة يظنّون أنّنا لن نعود إلى فلسطين. لكنّنا سنعود مهما طال الزمن". في عكّا، كان والده يعمل في مصنع للكبريت، وكان وضع العائلة المعيشي جيّداً. في لبنان أيضاً، عمل والده في المجال نفسه وفي مهن أخرى اختلفت طبيعتها.

يذكر يوم هروب العائلة من عكا. يخبر: "رأيت جثثاً ملقاة على الأرض وجرحى أيضاً. وحين سألت والدي عن الأمر، طلب منّي أن أصمت. أطلق الصهاينة الرصاص في اتجاه عمّي، فأردوه قتيلاً. لم يكن الإنكليز يؤمّنون الحماية للفلسطينيين أثناء خروجهم من فلسطين. أمّا الصهاينة، فكانوا يدخلون البيوت ويقتلون من في داخلها. اختبأ البعض بين الأشجار أو في غرف صغيرة داخل بيوتهم لم يعرف الصهاينة بوجودها". كلّ ذلك دفع بالفلسطينيين إلى ترك بيوتهم وأرضهم. أقفل كثيرون أبواب بيوتهم، ووضعوا المفاتيح في أعناقهم، وخرجوا. "ما زلت أحتفظ بمفتاح بيتنا في فلسطين الذي تركه لي والدي".

مرّ وقت طويل، لكنّه ما زال يتذكّر كم كان خروجهم من الوطن مخيفاً. في طريقهم إلى لبنان، كان الصهاينة يُطلقون النار صوبهم، فيما يصرخ والده "انبطحوا"، خصوصاً بعد مقتل عمه. استغرق وصولهم إلى لبنان أربعة أيام. في قرية على الحدود الفلسطينية - اللبنانية، مكثوا ثلاثة أيام يأكلون ما توفّر في الحقول، بالإضافة إلى الخبز الذي كانوا يشترونه من القرية. بعدها، انتقلوا إلى منطقة النبطية (الجنوب) ومكثوا فيها فترة قصيرة بسبب عجز والده عن إيجاد فرصة عمل. وما ساعدهم على العيش هو ادّخار والده بعض المال، وبيع جده بعض الأغراض التي استطاع إخراجها من فلسطين. بدأ جدّه العمل في مجال بيع الحلوى، قبل أن يلحق به والده وأعمامه.

درس في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في لبنان. لاحقاً، تعلّم صنع الحلوى وعمل مع والده من البيت. كان والده يرفض خروجه إلى الشارع لبيع الحلوى بسبب صغر سنّه. من النبطيّة، انتقلوا إلى بيروت. توقف عن العمل مع والده، واختار الكهرباء والأدوات الصحية، وعمل في هذا المجال حتى بلوغه السادسة عشرة. في ذلك الوقت، كان يرغب في السفر إلى الخارج، لكنّ الظروف لم تكن لصالحه. في عام 1972، انتقلت العائلة للعيش في مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في الضاحية الجنوبية لبيروت. يذكر أنّه في بداية لجوئهم إلى لبنان رفض والده السكن في خيمة، واستأجر منزلاً خارج المخيّم. لكن في عام 1972، قرّر الوالد العودة إلى المخيم والعيش فيه، علماً بأنّهم لم يملكوا بيتاً، والعائلات التي كانت تعيش في خيام بنت مكانها بيوتاً من ألواح الزينكو، ثم الحجارة. وفي المخيّم، كبر وتزوّج وأنجب خمسة أولاد.

ويحكي كيف كان الناس يشاهدون أفلاماً في شوارع المخيّم. لطالما أحب هذه التجمعات والألفة بين الناس ومساعدتهم بعضهم بعضاً في محنهم. لكنّ ذلك لم ينسه فلسطين، وحلم العودة إلى الأرض. وإن عاش معظم سنوات حياته في لبنان، إلا أنّه لم يشعر يوماً أنّه قد يحلّ محلّ وطنه. حين يتحدّث عن المفتاح الذي أعطاه إياه والده، يبكي. برأيه، يجب الحفاظ على المفتاح لأنّ العودة إلى الأرض حتمية، علماً بأنّ الصهاينة هدموا البيت في عكا. "لا يهم. سنعود".

المساهمون