رمضان مدن الجزائر... ليل حيّ

رمضان مدن الجزائر... ليل حيّ

26 يونيو 2016
ينعش رمضان ليل الجزائر العاصمة (فرانس برس)
+ الخط -

ورثت المدن الجزائرية منذ مرحلة العنف والإرهاب في تسعينيات القرن العشرين، عادة النوم باكراً، حتى أنّه يصعب إيجاد مطاعم ومقاه ومحلات تجارية في الخدمة بعد الساعة التاسعة ليلاً. كذلك تقلّ حركة النقل، من حافلات وقطارات، لينتعش النقل غير المرخّص وبأسعار خيالية.

أقلق وضع النقل كثيراً منظمات المجتمع المدني في السنوات الأخيرة، فدعت الحكومة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة، منها توفير النقل الليلي ومضاعفة الحرص الأمني وإجبار المحلات التجارية على البقاء قيد الخدمة إلى منتصف الليل. بذلك تتشجّع العائلات على الخروج. وقد أطلقت بالفعل مبادرة تجريبية على مستوى وسط الجزائر العاصمة تحت اسم "ليالي الجزائر البيضاء"، غير أنها سرعان ما تخلّت عنها، لتعود عاصمة البلاد إلى السبات الليلي من جديد.

من جهته، يبعث شهر رمضان، مهما كان الفصل الذي يحلّ فيه أو الطقس المسيطر، دبيباً استثنائياً في المدن والتجمعات السكنية، مباشرة بعد الإفطار وحتى الدقائق التي تسبق موعد الإمساك فجراً. فينتاب الناظر إحساس بأنّ البيوت باتت خالية من سكانها، في مقابل امتلاء المساجد والمقاهي والمسارح والشواطئ والساحات العامة. ويترتّب عن ذلك ازدهار التجارات المختلفة، خصوصاً المتعلقة بما يؤكل ويشرب، في مقدّمتها محلات المثلجات والشواء.

يقول الممثل نصر الدين شرقي لـ"العربي الجديد" إنّه يؤمن بما لفترة العنف والإرهاب من دور في تكريس عادة النوم باكراً، نظراً لحالتَي حظر التجوال والخوف اللتين كانتا سائدتين في الشارع الجزائري. لكنه لا يفهم أن يبقى الوضع مستمرا بعد عقدَين من انتفاء دواعيه. ويسأل: "أليس من واجب الحكومة التي تتغنى بزمن السلم والمصالحة وتثبت ذلك من خلال إرجاع الحياة إلى الليل الجزائري؟ أليس عيباً أن ننتظر رمضان حتى نستمتع بجمال مدننا والحياة فيها ليلاً؟".

ويدعو شرقي إلى البناء على تجربة ليالي رمضان، والتأسيس لحياة عادية للمدينة الجزائرية ليلاً، خصوصاً في المواسم المعتدلة. يقول: "لا أفهم أن تتوقف القطارات عند الثامنة ليلاً وتغلق المتاحف والمؤسسات الثقافية والفنية والإدارات المرتبطة بالمصلحة المباشرة للمواطن أبوابها في الوقت نفسه، إلا أنّ الحكومة لا ترغب في إتعاب نفسها بتشغيل مصالحها ليلاً. فهل سيبقى هذا خيارها بعد هبوط أسعار البترول وحاجتها إلى أموال السياحة؟".




في السياق، ينقلنا الناشط منير لبقع إلى المناخات الليلية في مدينة برج بوعريريج (شرق) ويخبر أنّ "الزيارات العائلية تزدهر بعد ساعة من موعد الإفطار، فتكتظ الشوارع بالنساء المصحوبات بأولادهنّ في طريقهنّ إلى بيوت الأهل والمعارف، في مقابل امتلاء المقاهي بالشباب والكهول والشيوخ للعب الورق والدومينو". يضيف: "تدهشني أجواء الليل الرمضاني بجمعها بين مختلف الأجيال والأمزجة والأذواق وبزوال الخوف من الليل. يستحيل قبل رمضان أن تسمح الأسرة لصغارها بأن يلعبوا خارج البيت بعد المغرب".

أمّا أمين كراطر وهو موظف في شركة عمومية، فيقول إنّ "الساحات العامة والحدائق والشواطئ في وهران (غرب)، ترتبط بصعاليك الليل خارج رمضان. ومن المخلّ بالحياء والخوف على الحياة أن تُقصد ليلاً. لكنها تتحول مع أول ليلة رمضانية إلى فضاءات عائلية حيّة". ويشرح أنّ "في ليالي رمضان، تصبح الواجهة البحرية للمدينة وشارع العقيد لطفي وحديقة الأفراح ذات روح ساحرة. هكذا، يصبح السهر والتبضع وسط المدينة حلماً جميلاً ننتظره أحد عشر شهراً". ويلفت إلى أنّ "وهران من المدن الجزائرية القليلة التي بقيت محافظة بشكل محدود على علاقتها بالسهر ليلاً خلال الأشهر العادية، لكنّ رمضان يجعل الظاهرة معممة".

في أقصى الشرق على الحدود التونسية، يتميّز ليل رمضان في مدينة عنابة، بغزو العائلات بكلّ أطيافها لـ"ساحة الثورة" المعروفة شعبياً بساحة الكور، لتناول المثلجات وشرب الشاي وحضور العروض المسرحية والغنائية في "مسرح عز الدين مجوبي". يقول طالب علم المكتبات سمير نصري إنّ "منظر العائلات في ساحة الكور وعلى شاطئ ريزي عمر، يشبه عرساً جماعياً مفتوحاً على مختلف الطقوس". يضيف: "إذا حدث أن تزامن رمضان مع فصل الصيف، فإنّ عائلات كثيرة تجلب الأكل معها من البيت لتتناول السحور على الشواطئ وفي الحدائق والساحات العامة. وتمثّل عملية تبادل الأطباق بينها مشهداً إنسانياً مدهشاً".

ويذكر نصري أنّ الأحياء الشعبية في المدينة، مثل "حي جوانو" و"حي 13 مايو" و"حي واد فرشة"، تصبح مسرحاً للفرق الموسيقية المؤلفة من شباب هواة، منها فرقته المتخصصة في الأغنية الشعبية، فيتمّ الغناء والعزف والرقص إلى ما قبيل موعد السحور. ويحدث أن تشارك النساء بالزغاريد من على الشرفات.

ولأنّ سبات ليل الجزائر العاصمة في الأشهر العادية يعدّ أكثر لفتاً للانتباه، فإنّ انتعاش ليلها في رمضان يتفوّق على ليالي المدن الأخرى، من خلال مسارعة الهيئات الثقافية والإدارية إلى تكييف برامجها وخدماتها. في هذا الإطار، مدّد مترو المدينة ساعات خدمته إلى الواحدة من بعد منتصف الليل، بالتزامن مع برنامج فني كلّ خميس وجمعة، وهو الإجراء الذي اتخذه القائمون على فضاء "رياض الفتح" الذي يمثل قلب العاصمة في ليالي رمضان. كذلك وضع "المسرح الوطني" و"الديوان الوطني للثقافة والإعلام" و"مؤسسة فنون وثقافة" برامج يومية خاصة بالعائلات.