اصطياد اللاجئين.. حرس الحدود التركي يمنع العبور

اصطياد اللاجئين.. حرس الحدود التركي يمنع العبور

21 يونيو 2016
ممنوع العبور! (الأناضول)
+ الخط -

بعد خمس سنوات على انطلاق الثورة السورية وتأزّم الأوضاع الأمنيّة والاضطرابات التي لحقت بها، ما زال المدنيّون في الشمال السوري يدفعون التكلفة الأكبر للحرب. من لم يمت في الاشتباكات بين الأطراف المتقاتلة التي تتعدّد، ولا بقصف طائرات النظام السوري أو الطائرات الروسية أو تلك الأميركية، فإنّه إمّا يعاني الأمرّين في ظل سياسات التجويع الممنهجة المفروضة على المناطق الداخلية أو يموت في استهداف ما للمخيّمات الحدودية أو على الطريق في آخر محاولات عبثية للنجاة يأمل من خلالها الخروج من البلاد المأزومة.

على الحدود التركية السورية، أنشئت مخيّمات للسوريين الباحثين عن مكان آمن. لكن، فيما تقدّم منظمات الإغاثة التركية دعماً كبيراً لتلك المخيمات الحدودية، تتّخذ السطات التركية إجراءات مشدّدة على طول حدودها مع سورية في وجه أعداد كبيرة من السوريين الباحثين تحديداً عن مكان آمن. فهي تمنع منذ أكثر من عام عبور أيّ سوريّ نحو الأراضي التركية، باستثناء من يشكو من حالة مرضية موثّقة عند معبرَي باب السلامة وباب الهوى. يأتي ذلك بينما تتوالى أخبار مقتل سوريين خلال محاولاتهم الفرار باتجاه الأراضي التركية بطريقة غير شرعية، على يد حرس الحدود التركي، في ما يبدو ممارسة ممنهجة تقضي بإطلاق النار على كلّ من يحاول عبور الحدود في أيّ نقطة كانت. الجهة المسيطرة على نقطة معيّنة ينطلق منها طالب اللجوء من الجانب السوري من الحدود، غير مهمّة بالنسبة إلى الأتراك. ومن يُلقَ القبض عليه من طالبي اللجوء السوريين، يتعرّض لضرب مبرح قد يؤدّي إلى وفاته، ثمّ تعمد السلطات التركية إلى إعادته إلى الأراضي السورية.

وكانت آخر حوادث القتل التي تعرّض لها سوريون على يد حرس الحدود التركي، قد وقعت يوم السبت الماضي عندما حاولت عائلات عدّة من مدينة جرابلس وأخرى من إدلب، عبور الشريط الحدودي انطلاقاً من بلدة خربة الجوز السورية نحو ولاية هاتاي (لواء إسكندرون). أدّى إطلاق النار من قبل حرس الحدود، إلى مقتل تسعة مدنيين من عائلة واحدة، بينهم ثلاثة أطفال وأربع نساء، فيما جُرح ثمانية أشخاص آخرين. تجدر الإشارة إلى أنّ الخارجية التركية نفت "الأنباء التي تحدثت عن إطلاق نار متعمّد"، مشيرة إلى أنّ "الوحدات الأمنية التركية تتحرّك وفق أرضية قانونية، خلال تدخلها حيال محاولات اجتياز الحدود بطرق غير قانونية والأحداث الحدودية".

لا تتوفّر إحصاءات دقيقة عن عدد طالبي اللجوء السوريين الذين لقوا حتفهم برصاص حرس الحدود التركي. لكنّ منظمة "هيومان رايتس ووتش" التي تُعنى بحقوق الإنسان، كانت قد أصدرت الشهر الماضي تقريراً بعنوان "حرس الحدود التركي يقتل ويصيب طالبي لجوء"، اتّهمت فيه الحرس التركي بإطلاق النار على السوريين وضربهم عند محاولتهم الدخول إلى تركيا، مشيرة إلى أنّ الأمر تسبّب في مقتل وإصابة عدد منهم بجروح خطيرة. وقد دعت المنظمة السلطات التركية إلى التوقّف عن "صدّ طالبي اللجوء السوريين والتحقيق في استخدام القوة المفرطة من قبل حرس الحدود". وأوضحت المنظمة أن شهرَي مارس/ آذار وإبريل/ نيسان الماضيَين "شهدا حالات عنف، قُتل على أثرها خمسة أشخاص منهم طفل، بينما أصيب 14 آخرون إصابات خطيرة".

حاولت "العربي الجديد" التواصل مع عائلات عدد من الذين قتلوا برصاص حرس الحدود التركي. صدام الهويدي، صيدلاني من الرقة، قتلت زوجته على الحدود التركية السورية. يقول الهويدي: "قبل خمسة أشهر، قصف الطيران الروسي مشفى السلام في مدينة الرقة الملاصق لبيتي. فخفت على عائلتي وقرّرت أن أهرب بها إلى خارج المدينة. استطعت أن أوصل زوجتي تبوك مع طفلَيّ، الأول يبلغ من العمر عاماً ونصف العام والثاني يبلغ من العمر ستة أشهر، إلى قرية عربية تدعى المشرفة في منطقة تل أبيض الخاضعة إلى سيطرة الأكراد. هاجم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) القرية بسيارة مفخخة، فهرع جميع سكانها بمن فيهم زوجتي مع الطفلين نحو سكة الحديد على الحدود، طمعاً بالأمان. فتنظيم داعش والقوات الكردية تتجنّب الاقتراب من الحدود التركية. لكنّ عناصر حرس الحدود التركي بدأوا بإطلاق النار على المدنيين، فأصيبت زوجتي التي كانت تحمل الطفل الأكبر برصاصة في يدها وسقطت أرضاً. وبينما كانت تلوّح لعناصر الحرس الأتراك، أصيبت بطلقة أخرى في صدرها فقضت على الأثر". ويشير الهويدي إلى أنّ "الذين فرواّ معها لم يتمكّنوا من سحب جثتها، لكنّهم نجحوا في تخليص ابني من حضنها". ويتابع أنّ "جثتها بقيت مرمية بالقرب من الحدود نحو 48 ساعة، إذ كان عناصر الحرس يطلقون النار على كلّ من يقترب من الجثّة محاولاً سحبها. أخيراً، نجح الأمر". ويسأل: "كيف يمكن أن يرى أحدهم تهديداً، في امرأة تحمل طفلاً؟".

ويكمل الهويدي سرده: "في هذه الأثناء، كنت في الرقة مع أخواتي ووالدتي. كنت أحاول معرفة أي شيء عن زوجتي. ولمّا وصلني نبأ وفاتها، لم أعرف ماذا أفعل. طفلاي بقيا عند أهل القرية، وتنظيم داعش  يمنع أيّ كان من المغادرة. ركبت السيارة حتى وصلت إلى قرية لقطة. هناك، منعني حاجز تابع لداعش من متابعة طريقي، فدخلت عبر الطرقات الزراعية، ليُلقى القبض عليّ على حاجز آخر للتنظيم. اعتقلوني بتهمة العمل على تهريب سيارات للأكراد، لكن بعدما رأوا حالي وبكائي، أطلقوا سراحي. فأكملت الطريق سيراً على الأقدام. مشيت نحو 25 كيلومتراً في منطقة ألغام على الجبهة بين الأكراد والتنظيم، حتى وصلت إلى قرية عربية هجرها جميع أهلها إلا رجلا واحدا. نمت عنده قبل أن يدلّني على الطريق. وعندما وصلت إلى الحاجز الكردي ورأوا حالي وبكائي، سمحوا لي بالعبور".

الهويدي لا يعرف اليوم أيّ شيء عن أخواته ووالدته، فالاتصالات مقطوعة مع الرقة، "لكنّني هنا أعتني بطفلَيّ. لا أملك شيئاً وأعيش على المساعدات. لا أعرف ماذا فعلت حتى أنال كلّ هذا. إلى من نشتكي؟ من يأخذ لنا حقنا؟". يضيف: "أفرح لمن يموت منّا، لأنه يرتاح من هذا العذاب. هل تعرف بأنّ شابتَين وشاباً من دير الزور حاولوا العبور نحو تركيا، لكّنهم قُتلوا على يد حرس الحدود بالقرب من قرية حشيشة التابعة لتل أبيض؟ لم يتمكّن أهلهم من سحب جثثهم، فراحت الكلاب تنهشها لأكثر من شهر".




على الرغم من أنّ الموت يلاحقهم أينما ذهبوا، إلا أنّ السوريين ما زالوا يحاولون العبور نحو الأراضي التركية، بأيّ طريقة ممكنة. وفي ظل التشديد الأمني التركي، ارتفعت تكلفة التهريب كثيراً، لتصل إلى ما بين خمسمائة دولار أميركي وألف دولار للشخص الواحد، وهو ما يُعدّ رقماً فلكياً بالمقارنة مع مستوى الدخل في سورية.

علي مهرّب سوري من تل أبيض، يقول لـ "العربي الجديد": "نضطر إلى رفع الأسعار بسبب المخاطرة العالية. نحن نتعاون مع شبكة من المهرّبين العرب من سكان القرى الحدودية التركية، الذين يتفقون بحسب ما يقولون مع ضباط حرس الحدود لتمرير طالبي اللجوء. لكنّني لم أعد أصدّق أياً منهم، وأنا لا أكذب على زبائني كباقي المهرّبين". يضيف: "ما نفعله هو رصد حركة الدوريات على الحدود. إن لم يحصل طارئ يؤدّي إلى تغيير في مواعيد الدوريات، تتمّ العملية بسلام". وعند سؤاله عن سبب عمله في التهريب، يجيب علي: "وفّر لي عملاً آخر يسدّ جوع أطفالي، وأنا أتوقّف عن التهريب في الحال. هل تظنّ بأنّني لا أخاطر بحياتي؟ عناصر حرس الحدود يعرفونني. وهل تعرف أنّ مصيري هو إمّا السجن لمدّة خمس سنوات أو الموت ضرباً، في حال ألقوا القبض عليّ؟ لكن، إن لم أفعل هذا الأمر، لا بدّ أنّ غيري سوف يقوم به".

في السياق نفسه، تبدو سمعة مخفر غوفاتشي لحرس الحدود في ولاية هاتاي (لواء إسكندرون) المقابلة لقرية خربة الجوز في محافظة إدلب، الأسوأ على الإطلاق لجهة مستوى العنف وتقصّد قتل طالبي اللجوء السوريين. كذلك الأمر بالنسبة إلى المخفر الحدودي في منطقة أكجاكالة المواجهة لمنطقة تل أبيض.

مثنى فقد عمّه الذي قتل أثناء محاولته العبور مع أفراد عائلته إلى الأراضي التركية عبر قرية خربة الجوز في إدلب. يقول لـ "العربي الجديد": "اعتقل عمّي لما يقارب العامَين في سجون تنظيم داعش، وبعدما أطلق سراحه، استطاع الفرار برفقة عائلته إلى إدلب. حاول عبر قرية خربة الجوز الانتقال إلى الأراضي التركية، لكنّ عناصر حرس الحدود التركي قنصوه في رأسه. سريعاً، فرّت عائلته من المكان، ولم يتمكّن أحد من سحب جثته لأكثر من يومين". يضيف أنّ "زوجته ما زالت تبكيه. كيف دُفن في أرض غريبة لم يعرفها؟ هل تعرف مدى قسوة أن تدفن عزيزك الميت، وتحاول بعدها مباشرة عبور الحدود مرّة أخرى وتنجح، بينما يبقى القبر وراءك؟".

من جهته، فقد هوّاش والدته برصاص قنّاص تركي على الحدود بعدما حاولت مع والده الالتحاق به في مدينة أكجاكالة الحدودية التركية. يقول: "المهرّبون يورّطون الناس ويكذبون عليهم ويقولون لهم تعالوا، مدّعين أنهم عقدوا اتفاقاً مع حرس الحدود التركي". يضيف: "تهجّرنا من منطقة سلوك في الرقة بعد سيطرة قوات العمال الكردستاني على البلدة. حصدوا محاصيلنا وسرقوا منازلنا وهدّوا بعضها ومنعونا من العودة إليها، في سياسة تهجير واضحة. استطعتُ الفرار إلى إدلب، وعبرت إلى الأراضي التركية من المناطق المحيطة بمعبر باب الهوى بعدما دفعت 450 دولاراً. لم أستطع التقدّم للحصول على بطاقة كيمليك، لأنّ الحكومة التركية توقّفت عن منحها للاجئين الجدد منذ فترة".

يتابع هوّاش: "قبل شهر، حاول والداي وأختي التوجّه إلى تركيا بوساطة أحد المهرّبين، من محيط تل أبيض السورية. وما إن اقتربوا من الخط الحدودي المحاذي لقرية الفيونطة، حتى بدأ حرس الحدود بإطلاق النار عليهم. نجا والدي وأختي وقُتلت والدتي بعد إصابتها بطلقة في الرأس". ويشدّد: "لم نعد نريد شيئاً، غير مكان آمن نعيش فيه بعيداً عن القتال". لكنّه يستدرك: "أريد العودة إلى قريتي".

لا تتوقّف حوادث إطلاق النار وضرب طالبي اللجوء السوريين أثناء عبورهم الحدود بطريقة غير نظامية من ريف الرقة وحلب وإدلب وكذلك من ريف محافظة الحسكة السورية، خصوصاً في ظلّ سيطرة "حزب الاتحاد الديمقراطي" على المنطقة بينما تستمرّ الاشتباكات بين قوات الجيش التركي و"حزب العمال الكردستاني".

عامر فقد نسيبه الشاب البالغ من العمر 24 عاماً، عندما قتل في منطقة الدرباسية في محافظة الحسكة على يد حرس الحدود التركي. يخبر أنّ "عائلة عمّتي فرّت من دير الزور إلى دمشق. وفي ظلّ سوء الوضع الاقتصادي، قرر ابنها الذهاب إلى مدينة القامشلي جواً، على أمل الفرار نحو تركيا والبحث عن عمل هناك. لكنّه قتل على الحدود في إطلاق للنار". يضيف: "يبدو أنّ الموت هو مصيرنا الوحيد، نحن السوريين".