علكة أو بسكويت

علكة أو بسكويت

15 يونيو 2016
وفي بقعة أخرى من العالم... (Getty)
+ الخط -

تحمل سلّة قشّ بيضاويّة صغيرة، وتتنقّل بين السيارات في ذلك الشارع الفرعيّ من منطقة رأس بيروت. لا تتخطّى حدود التقاطعَين اللذَين يحدّانه. هذه هي مساحتها. تغطّي المرأة العجوز رأسها بمنديل ملوّن نظيف عقدته عند أسفل ذقنها، فيما تظهر غرّة شعرها الشائب. لونه المائل إلى فضيّ، يشي بأنّه لم يعرف في يوم أيّ نوع من الصباغ. هو على طبيعته، تماماً كما ابتسامتها الخجولة وعينَاها اللتَان تتوسّلان بخجل كلّ من يعبر في ذلك الشارع.

تسوّي فستانها الطويل وسترتها التي حرصت على كيّهما قبل ارتدائهما، وتبدأ جولة جديدة بظهرها المنحني بعض الشيء. تتنقّل بين السيارات، من دون أن تلحّ على سائقيها. تقترح عليهم العلكة أو البسكويت، وهي تعرض سلّتها. لا تطيل الانتظار عند نافذة أيّ من المركبات. الاستجداء بإلحاح، لا شكّ في أنّه يطاول كرامتها. التسوّل، لا شكّ في أنّه يحرجها. وتكمل طريقها، من دون أن تطرق زجاج أيّ من نوافذ المركبات. توجّه نظراتها يمنة ويسرة، وفي حال شعرت بأنّ أحدهم يهمّ بالتعاطف معها، تنتظر لثوانٍ. إمّا يصحّ حدسها فتحصل على ألف ليرة لبنانيّة (0.66 دولاراً أميركياً) أو ما شابه، وإمّا يخطئ فتختفي سريعاً بعد تلك الثواني القليلة.

في مساحتها تلك، بتعبير أصحّ في تلك المساحة التي حُدّدت لها، تمكّنت المرأة العجوز من إرساء قواعد جديدة للتسوّل.. قواعد تطبّقها هي على نفسها. أُجبِرَت على فعل ذلك، فلا بدّ من أن تجعله يتناسب في الحدّ الأدنى مع عزّة نفسها.

بهندامها الذي تحرص على أن يكون دوماً مرتّباً نظيفاً، وإن ارتدت الملابس نفسها التي رتقتها في أكثر من محلّ، تقدّم للمتعاطف سلّتها. وهو من جهته، يختار على ذوقه إمّا العلكة وإمّا البسكويت. بيد أنّ ذلك المتعاطف، قد لا يمدّ يده لتناول أيّ من القطع التي رتّبتها في سلّتها. وهنا تكون الإهانة الكبرى. ترفع يدها التي أخفت التجاعيدُ تفاصيلَها، قائلة بنبرة مستنكرة حازمة: "أستغفر الله!". نبرة صوت حازمة، إنّما حزينة تخفي كثيراً من الأسى. وتصرّ عليه لتناول أيّ من محتويات سلّتها.

في صباح كلّ يوم، حتى في صباحات شهر رمضان، تحمل سلّتها بيدَين مرتجفتَين وتقصد شارعها. لا أحد يعرف من أين تأتي. فجأة، تظهر في مساحتها تلك. اليوم أيضاً، لا بدّ من أنّها قصدت تلك المساحة التي حُدّدت لها. ولمَ لا تفعل؟! من حدّدها لها، بالتأكيد غير معنيّ باليوم العالمي للتوعية حول إساءة معاملة المسنّين.

الخامس عشر من يونيو/حزيران تاريخ آخر يُضاف إلى روزنامة الأمم المتحدة. وتكثر التواريخ التي خُصّصت لتلك العجوز التي أرست قواعد جديدة للتسوّل تطبّقها على نفسها. الأوّل من أكتوبر/تشرين الأوّل، اليوم الدولي للمسنّين، واحد منها. تكثر تلك التواريخ، أمّا هي فما زالت تشغل يومياً تلك المساحة التي حُدّدت لها.


المساهمون