روسيا تودّع عهد مافيات التسعينيات

روسيا تودّع عهد مافيات التسعينيات

18 أكتوبر 2016
ولاء لـ "الزعيم" حتى بعد وفاته (أندريه سميرنوف/فرانس برس)
+ الخط -

في أغنية "عندما يُدفن الشباب"، تتناول فرقة "إن تي إل" الواقع المرير للمافيا وعالم البزنس في روسيا. وتغنّي كيف أنّه لا قيمة للأموال بالمقارنة مع الحياة ودموع الأمهات وشيب شعر الآباء والأبناء اليتامى.

وسط الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، تمكّنت المافيا من بسط سيطرتها على قطاعات عدّة من الحياة والأعمال وراحت تتقاسم النفوذ. لكنّ دور العصابات بدأ ينحسر مع بداية القرن الجديد وتعزيز قوّة الدولة، وفي حين بات قادة العصابات إما في عداد القتلى نتيجة تصفية الحسابات وإما قابعين في السجون وإما هاربين إلى خارج البلاد أو نجحوا في تسوية أوضاعهم قانونياً.

وأخيراً، صدر حكم جديد بالسجن 25 عاماً في حقّ أحد زعماء عصابة "أوريخوفو"، التي يُعدّ القضاء عليها محطة رمزية في انتقال روسيا من زمن العصابات إلى زمن "البزنس" (الأعمال) المتحضّر الذي يحكمه القانون. وكانت عصابة "أوريخوفو" قد عرفت في التسعينيات بتصفية الحسابات مع العصابات المنافسة بأساليب دموية. فهي كانت من أكثر عصابات موسكو ثراء وكانت تضع يدها على مجموعة من الأسواق ومحطات التموين بالوقود والمطاعم وحتى شركات ومصارف، الأمر الذي يعني أنّها كانت تسيطر على تدفّقات مالية تقدّر بملايين الدولارات.

في هذا الإطار، يرى المحقق الخاص ميخائيل فيسيلوف أنّ الحكم الجديد في حق زعيم عصابة "أوريخوفو" يعني طيّ روسيا صفحة مافيا التسعينيات بلا رجعة. ويقول لـ"العربي الجديد" إنّ "السلطة في التسعينيات كانت ضعيفة، وكانت العصابات تنظّم البزنس. لكنّ الدولة والأجهزة الخاصة استرجعت قواها وباتت هي الحكم". وحول تكيّف عناصر العصابات مع الواقع الجديد، يوضح أنّ "هؤلاء فهموا بسرعة من هو في موقع القوة، ولم يحاولوا منافسة الدولة من جديد".

في عالم العصابات الروسية، كان هرم للسلطة والنفوذ على رأسه "شيوخ اللصوص". ويشرح فيسيلوف أنّ "شيخ اللصوص هو شخص له ماضٍ جنائي وقد سبق سجنه، وهو يتعامل مع العصابات من خلال وسطاء ويؤدي دور الحكم بينها". وعلى الرغم من تراجع "شيوخ اللصوص" خلال السنوات الخمس الماضية، إلا أنه يكاد لا يمر أسبوع في روسيا دون وقوع حادثة في إحدى مدنها تتعلق بـ"شيخ لصوص" أو اعتقاله.

ولعل أبرز هذه الوقائع خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، حادثة اغتيال أصلان أوسويان ولقبه "الجدّ حسن" في وسط موسكو، في مطلع عام 2013. عندها، كان يبلغ من العمر 75 عاماً. وكان الجدّ حسن قد عرف بأنّه زعيم العصابات القوقازية، وينتمي إلى "المدرسة القديمة" إذ يحترم القواعد المعمول بها في الأوساط الإجرامية، في حين كان حكماً في الخلافات بين العصابات. والجدّ حسن الذي كان من أشهر "شيوخ اللصوص" في روسيا، كان معروفاً في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق وخارجها.




خلال التسعينيات، أصبحت العائلات من دون أي عون من الدولة، والعمال من دون عمل، فانضم رياضيون وشباب بسطاء كثيرون إلى العصابات طمعاً في الثراء، قبل أن يقضوا من جرّاء تصفية الحسابات بين بعضها البعض. وشهدت روسيا آنذاك معدّلات جريمة غير مسبوقة بين سرقة وقتل واغتصاب وابتزاز ورشاوى أصبح تسديدها من واجبات الحياة اليومية في فترة من الفترات.

في سياق متصل، توضح مصادر كانت مقرّبة من أوساط عالم الأعمال في التسعينيات أنّه مع انتقال روسيا إلى اقتصاد السوق الحر، كان من السهل الدخول إلى عالم المال والتجارة، لكنّ التحدي الأكبر كان يكمن في الخروج منّه حياً. وتشير مصادر "العربي الجديد" إلى أنّه كانت تستحيل مزاولة أي نشاط تجاري بلا غطاء من الشرطة أو العصابات أو شركات الحراسة الخاصة التي كانت تتحكم في السوق وتفرض إتاوات على رجال الأعمال وأصحاب المشاريع. وفي أحيان كثيرة، كانت تنتهي بطريقة مأساوية باغتيال رجال أعمال أو في أحسن الأحوال بالاعتداء عليهم والاستيلاء على المشاريع عن طريق الابتزاز أو التهديد بقتل صاحب المشروع أو أفراد من عائلته. وذلك وسط تراخ تام من قبل الشرطة والأجهزة الأمنية.

وحول أساليب العصابات، تضرب المصادر مثلاً برجل أعمال طُلب منه مرّة إيصال مبلغ كبير نقداً إلى موقع ما. وفي طريقه، اعتدي عليه وطعن وسرقت نقوده حتى يصبح مديوناً ويتمكّنوا من الاستيلاء على متجره. يُذكر أنّ رجال الأعمال كانوا يعتمدون في ذلك الوقت النقود السائلة في الحسابات بين بعضهم بعضاً، بدلاً من التحويلات المصرفية، وذلك لتفادي أيّ رقابة مالية والتهرّب من دفع الضرائب وتبييض الأموال.

وبعدما كان اختلاط عالم الأعمال والمافيا واقعاً في روسيا التسعينيات، تطوّر الأمر إلى ثقافة متكاملة ما بين مصطلحات خاصة بعالم العصابات وأفلام ومسلسلات وأغانٍ تظهر حياة الأفراد في الأوساط الإجرامية والمسجونين بشيء من الرومانسية المرّة، مع إبراز مشاعرهم والجوانب الإنسانية لشخصياتهم. لكنّ ذلك الواقع القبيح يختلف عن الفنّ.

دلالات