عطور الطائف... عشق الورد قبل تجارته

عطور الطائف... عشق الورد قبل تجارته

01 فبراير 2016
ليس من المبالغة بيع العطر بألف دولار (فرانس برس)
+ الخط -
لا يعتبر أهالي الطائف عطر الورد الذي تشتهر به المنطقة مجرد تجارة، بل علامة على شخصية المدينة وروحها الموغلة في القدم. تشهد الطائف تناغماً تاماً بين حقول الورد ومعامل العطور من أجل إنتاج عطر مكلف، لكنّه مميز

تشتهر مدينة الطائف، غربي السعودية، عدا عن كونها إحدى أجمل مدن الخليج وأكثرها برودة، بالورد الجوري. ينتشر الورد في الأودية المحيطة بالمدينة، ولا تزاحم أسراب النحل عليه إلاّ أيادي المزارعين. فالجوري مصدر أساسي لأجمل أنواع العطور التقليدية في المنطقة التي تشتغل معامل تقطيرها بطرق تقليدية.

تعج جبال الطائف وأوديتها الكثيرة، خصوصاً الشفا والهدا والغديرين والضحياء ومحرم، بالجوري، ما يصنع علاقة مثمرة بعيدة العهد ما بين صانعي العطر ومزارعي الورد. يقول أحمد الدحيني، وهو مالك حقل ورد يقع على قمة جبل الهدا: "جوري الطائف لا مثيل له في كلّ أنحاء العالم. هو أقوى عطراً من أيّ جوري آخر، ومع أنّه أصغر من مثيله الشامي، إلاّ أنّ حجمه الصغير جعل العطر أكثر تركيزاً في بتلاته". يشدد الدحيني على أنّ السرّ يكمن في تركيبة التربة، والماء، وأيضاً درجات الحرارة، فمحاولة البعض زرع ورد الطائف في مناطق أخرى باءت بالفشل. يبيع حقل الدحيني إنتاجه من الورد منذ سنوات طويلة إلى معامل خاصة، أهمها معمل الثبيتي. هو لا يتذكر متى بدأت أول شحنة من ورد حقله تأخذ طريقها إلى ذلك المعمل، "ربما كان ذلك في عهد جد جدي، وربما أقدم. كان حقلاً صغيراً، ومعملاً أصغر، أما اليوم فأصبحنا أكبر، وهم كذلك. لكن ما زلنا نعمل بالطريقة التقليدية ذاتها، نزرع بطريقة يدوية، ويقطّرون الورد يدوياً. إدخال الأجهزة الحديثة سيفسد العطر. فهذه المهنة عشق قبل أن تكون تجارة".

وبالفعل، ما زال المزارعون يعتمدون على التقويم الزراعي القديم المرتبط بحركة النجوم. من خلاله يعرفون مواعيد زراعة الورود، التي تبدأ عادة في برج "الطرف" الذي يصادف في مطلع يناير/كانون الثاني من كلّ عام، ويستمر نحو شهرين ونصف الشهر. تحظى شجيرات الورد بعناية خاصة وتشذيب متواصل مع توفير دائم للماء والسماد حتى موسم الحصاد الذي يبدأ عادة في شهر أبريل/نيسان، ويستمر حتى مايو/أيار. خلال هذه المدة، يحرص المزارعون على إبقاء شجيرة الورد قريبة من الأرض، فلا يزيد ارتفاعها على متر ونصف المتر ويقص ما يرتفع عن ذلك، بهدف تحفيز الشتلة على إنتاج المزيد من الورود.

ومع ارتفاع الطلب على الورد، هجر كثير من المزارعين زراعة الفواكه والأعلاف من أجله. لكنّهم باتوا رهينة لتقلبات الطقس، فالورد شديد الحساسية لأيّ انخفاض في درجة الحرارة قد يتلف معظم المحصول.

يقول مراد مجرشي الذي يعمل في مزرعة ورد على حدود وادي الشفا لـ"العربي الجديد": "حاولنا إدخال طرق حديثة في الزراعة، واستخدمنا منازل محمية، لكنّ رائحة الورد اختلفت، فعدنا إلى الطرق القديمة". لهذا الأمر نتائجه السلبية، إذ "فقدنا العام الماضي نصف محصولنا بسبب موجة صقيع ضربت الوادي. صحيح أنّ زراعة الورد مربحة أكثر من الأعلاف أو الفواكه، لكنها خطرة أيضاً. قد تربح 300 ألف دولار أميركي في موسم، وقد تخسر كل شيء. وعندما تتضرر شتلات الورد ترتفع أسعار الناجية منها، وهذا ينعكس على أسعار العطور".

يبيع المزارعون كلّ ألف وردة بنحو 20 دولاراً، وتنتج الشجيرة الواحدة نحو 200 إلى 280 وردة يومياً طوال موسم الحصاد. تدرّ الشجرة الواحدة دخلاً يتجاوز 720 دولاراً في الموسم الواحد الذي يستمر نحو شهرين، ما يعني نحو 280 ألف دولار لمزرعة متوسطة.

قطف الورد هو المرحلة الأولى في طريق تحويله إلى عطر باهظ الثمن. منذ قرون تستحوذ عائلات تُعد على أصابع اليدين على هذه الصناعة. تعتبر عائلة القاضي الأكثر شهرة. وما زالت تستخدم منزلاً قديماً لتقطير الورد، لم يتغير منذ الجد الأكبر، وهو أحد المنازل الأثرية في المدينة. تبدأ العملية بوزن الورد بميزان قديم، لكنه لا يفوّت غراماً واحداً. ويستقبل المعمل أكثر من 1.5 مليون وردة يومياً، لكنّ العملية الأهم والأكثر تعقيداً، تكمن في التقطير. يصر أبناء القاضي ومثلهم أبناء القرشي وآل صلحي على استخدام الطرق البدائية القديمة، لأنها "تخلق العطر المميز" كما يقولون. يبدأ هذا بتهوية الورد، ثم غليه في أوعية نحاسية ضخمة لاستخراج الدهن العطري من قلب الوردة وبتلاتها. بعض هذه الأوعية يُستخدم منذ أكثر من 250 عاماً بحسب العامل في معمل القاضي، ناجي العلي. يقول لـ"العربي الجديد": "النحاس هو الأنسب لعملية التقطير، فالحديد ثقيل ويصعب التحكم في حرارته، أما النحاس فهو أكثر تقبلاً للحرارة التي لا تتسبب في احتراق الورد". يضيف: "هي عملية معقدة، أي خطأ فيها قد يفسد كل شيء، ومكلفة كذلك، فقنينة العطر الصغيرة تحتاج إلى أكثر من 40 ألف وردة لإنتاجها. لهذا ليس من المبالغة بيعها بألف دولار".

اقرأ أيضاً: "المشموم" حرفة تُعطّر أجواء تونس

دلالات