"الغابة الجديدة".. مأساةُ الحالمين باللجوء إلى بريطانيا

"الغابة الجديدة".. مأساةُ الحالمين باللجوء إلى بريطانيا

10 اغسطس 2015
يحاولون الهرب من الشرطة (فيليب هوغوين/فرانس برس)
+ الخط -

لدى كثير من اللاجئين في منطقة كاليه الفرنسية، وهم من جنسيات مختلفة (أريتيرية وسودانية وأفغانية وعراقية وسورية وغيرها)، قلق وخوف بسبب استخدام وسائل عنيفة ضدهم قد تؤدي إلى خسارتهم حياتهم، على غرار ما حدث أخيراً مع شاب أريتيري وآخر سوداني أرادا الوصول إلى بريطانيا. وفي فرنسا جدال حاد حول هذه القضية مع اقتراب موعد الانتخابات الجهوية الفرنسية في ديسمبر/كانون الأول المقبل.

لا تستقبل بريطانيا عدداً كبيراً من اللاجئين بالمقارنة مع غيرها من دول القارة الأوروبية، وخصوصاً ألمانيا التي استضافت منذ بداية العام الجاري نحو 300 ألف طلب لجوء. ويتوقع أن يصل العدد الإجمالي هذا العام إلى 600 ألف طالب لجوء. وهذا رقم كبير إذا ما قورن بحوالي 30 ألف طلب لجوء في بريطانيا خلال عام واحد فقط.
وليس مبالغة القول إن معظم الدول الأوروبية تستقبل لاجئين أكثر من بريطانيا. وهناك رابط بين رفض الأخيرة التوقيع على معاهدة شينغن حول حرية تنقل الأفراد بين الدول الأوروبية وانحسار طلبات اللجوء فيها. لكن لا علاقة للهجرة الشرعية السنوية إلى بريطانيا، والتي تتجاوز المائة ألف شخص، بهذه القضية. وتستطيع بريطانيا قبول أو رفض استقبال 2309 لاجئين من بين 20 ألف لاجئ سوري وافقت المفوضية الأوروبية على استقبالهم، وفق نظام الحصص المتبع، علماً أنها ما زالت تتردد في الموافقة.

أما فرنسا، فقد سجلت العام الماضي حوالي 64 ألف طلب لجوء، غالبيتهم من الكونغو الديمقراطية وروسيا وبنغلاديش وألبانيا وسورية. وكان السوريون أوفر حظاً في الحصول على اللجوء، يليهم الروس ثم السريلانكيون. والمشكلة الأساسية في كاليه هي إصرار المهاجرين على الوصول إلى بريطانيا، كونهم يتحدثون اللغة الإنجليزية، ولديهم عائلات وأقارب هناك، وطمعاً بظروف استقبال أفضل، وخصوصاً أنها تمنحهم مراكز إيواء فور تقدمهم بطلبات لجوء. لذلك، على الرغم من أن فرنسا تقترح عليهم تقديم طلبات لجوء إليها، يرفض كثيرون الأمر من منطلق "إما بريطانيا أو الموت".

وأمام استحالة إيجاد حلّ نهائي للأمر، وبعد مقتل تسع نساء ورجال ورضيع منذ بداية شهر يونيو/حزيران الماضي، تتجه الأمور نحو التصعيد، في ظل إقامة حواجز مانعة لتسلل المهاجرين. هذه الحواجز تمنع الوصول إلى الميناء، ما يدفع المهاجرين غير الشرعيين إلى الاحتماء حول النفق الذي شيّد تحت بحر المانش، والبحث عن فتحات للتسلل من خلاله، على غرار ما فعل مهاجر سوداني أخيراً كاد يصل إلى نقطة النهاية لو لم تلق الشرطة البريطانية القبض عليه.

اختارت بريطانيا اعتماد الحل الأمني، ما تجلى بنشر نحو ألف شرطي في مدينة كاليه. والهدف إحباط أي عملية تسلل سواء في النفق أو الميناء أو من خلال الصعود في الشاحنات.
مع ذلك، يُحاول نحو ثلاثة آلاف شخص يتواجدون في كاليه، والذين يتوقع أن يصل عددهم قريباً إلى 5000 شخص بحسب تقديرات الجمعيات الإغاثية، ابتكار طرق جديدة للإفلات من رقابة الشرطة. أحياناً، تحصل بينهم مواجهات عنيفة، على غرار ما حدث بين عشرات السودانيين والأريتيريين. إلى ذلك، يتناقص عدد السوريين، الذين يشكلون ما بين 70 و80 شخصاً. ويدرك هؤلاء أن السفر إلى بريطانيا محفوف بالمخاطر. في السياق، يقول سعيد، وهو شاب سوري يعيش في خيمة للاجئين السوريين في ضاحية باريس، إنه حاول البقاء في كاليه لمدة ثمانية أشهر، لكن الأمر كان قاسياً بسبب الحصار الأمني وإصرار السلطات على إبعاد اللاجئين عن سكان المدينة. يضيف أنه حاول في إحدى المرات صعود شاحنة كانت تتجه إلى بريطانيا، لكنّ الحرس الموجودين في النفق أبعدوه.

اقرأ أيضاً: فرنسا وبريطانيا: إنهاء أزمة المهاجرين في كاليه أولاً

وتقول فرنسا وبريطانيا إن الهدف هو الحد من استقبال هؤلاء خشية تشجيع مهاجرين آخرين على القدوم. وترى المنظمات الإنسانية والإغاثية أن الحل يكمن في فتح ممرات قانونية للمهاجرين للوصول إلى الأراضي الأوروبية، ومنها بريطانيا. أيضاً، يجب على الدول الأوروبية، من بينها فرنسا، تطبيق القوانين المتعلقة بحماية الأحداث وغيرهم. ففي كاليه، صار هناك حي جديد يقيم فيه المئات من طالبي اللجوء وعشرات الأحداث والنساء الحوامل.
في السياق، يصف الأنثروبولوجي الفرنسي ميشيل أجيير كاليه بأنها "مدينة صفيح"، أو "الغابة الجديدة"، أو "سانغات من دون سقف" (بعد إغلاق معسكر سانغات للاجئين وطالبي اللجوء). ويرى أن ما حدث في كاليه، وإنشاء معسكر تجمّع أمني ــ إنساني تحت مراقبة الدولة، يكشف عن وضع بالغ التعقيد من الناحية القانونية والسياسية واللوجستية والإنسانية.
ويستطيع نصف الأشخاص المتواجدين في معسكر كاليه الخروج منه على الفور، في حال التوصل إلى تسوية سريعة، على غرار ما فعله المكتب الوطني لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية، مع طالبي اللجوء الأريتيريين في بداية شهر يونيو/حزيران الماضي.

وإذا كانت الطبقة السياسية الفرنسية قد نأت بنفسها عن انتقاد الموقف البريطاني من هذه القضية، لأسباب كثيرة منها أنها خارج معاهدة شينغن، وبالتالي فهي غير ملزمة باستقبال لاجئين يمرون من دول الاتحاد الأوروبي، ثم إنها مُقبلة على استفتاء شعبي حاسم لتقرير مسألة البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أن السياسي كزافيي برتراند، أحد زعماء الحزب الجمهوري، وأحد الوجوه الصاعدة والمرشح للانتخابات الرئاسية عام 2017، انتقد الموقف البريطاني من القضية، مهدداً بالسماح للمهاجرين بالتوجه إليها. وأعرب لصحيفة "لو جورنال دي ديمانش" الأسبوعية الفرنسية، عن غضبه من "صحافة التابلويد البريطانية التي يتوجب عليها، بدلاً من استهداف فرنسا واتهامها بعدم إيجاد حل للمشكلة، أن تكون واعية بأن الفرنسيين هم من يعالجون المشكلة". أضاف أنه "في الوقت الذي لم يستطع فيه أحد معرفة كيف يمكن منع هؤلاء من القدوم إلى أوروبا، يطلبُ من الفرنسيين منعهم من التوجه إلى بريطانيا". وتطرق إلى موقف السكان الغاضبين والمُتعَبين الذين لا يتفهم أحد معاناتهم. ويتساءل كثيرون أنه ما دامت أوروبا لا تمنع وصول المهاجرين إلى منطقتهم، فما الذي يمنع السماح لهم بالتوجه إلى بريطانيا؟

ولا شك أن فرنسا تدفع ثمناً كبيراً لناحية استقبال هؤلاء المهاجرين. ويرى كثيرون أن إيطاليا تسمح للمهاجرين الذين يصلون إلى أراضيها وشواطئها بالمرور إلى فرنسا. وتجدر الإشارة إلى أن هناك إجماعا سياسيا في فرنسا على انتقاد الموقف البريطاني من اللاجئين، وخصوصاً أنها لم تعلن أي موقف يساهم في التخفيف على فرنسا والحد من مآسي هؤلاء الحالمين بالوصول إلى بريطانيا. أمرٌ دفع المساعد الأول في بلدية كاليه إيمانويل أغيوس إلى أن يتحدث عنها باعتبارها مدينة ألحقتها بريطانيا بها، متهماً إياها بإرغام السلطات الفرنسية على فرض "الإقامة على هؤلاء المهاجرين".
ولا يبدو هناك أي بادرة تخفيفية من بريطانيا. وعلى العكس، فقد قررت قبل أقل من يومين تعزيز ترسانتها القمعية على كل من يقدّم يد العون للمقيمين بصفة غير قانونية في البلد. وتنصّ مسودة القانون الجديد سيُقدَّم للبرلمان للتصديق عليه في الخريف القادم على معاقبة كل من يؤجر بيتا لمقيم بصفة غير قانونية بخمس سنوات سجنا، كما أنه سيكون بإمكان الشرطة البريطانية طرد كل يُرفض منحُ اللجوء له من مقر سكنه.

وبانتظار توافق ما حول هذه المعضلة التي تتسبب في مآس كثيرة، لن يتوقف اللاجئون عن النظر إلى الضفة الأخرى من البحر، والمخاطرة بحياتهم كلما وجدوا فرصة لذلك. كما أن السلطات الفرنسية، وبسبب اقتراب الانتخابات الجهوية، لن تتوانى عن إرسال المزيد من التعزيزات البوليسية للتصدي للاجئين. وتجدر الإشارة إلى أن الشرطة كانت قد صدت حوالي ألفي محاولة للتسلل إلى النفق أخيراً.
يقترح برتراند حلاً للمشكلة، وهو تشييد مركز تتولى المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة الإشراف عليه، على أن يكون جاهزاً لاستضافة اللاجئين طول الوقت. ويضع السياسي الفرنسي نصب عينيه "حماية سكان كاليه الذين ضاقوا ذرعاً بالأمر".

اقرأ أيضاً: نفق الوصول الصعب إلى بريطانيا