بَيض ملوّن

بَيض ملوّن

08 ابريل 2015
... نجد أنفسنا وقد انغمسنا جذلين في بعضها (Getty)
+ الخط -

نهرب من العادات والتقاليد. نعبّر عن مقتنا لها. ننتفض عليها. نخوض معاركنا الصغيرة في وجهها. ندّعي أننا نسعى إلى التحرّر من أوزارها. لكننا كثيراً ما نجد أنفسنا وقد انغمسنا جذلين في بعضها. الاستثناءات تجوز.

تلوين البيض من طقوس العيد. أمر مسلّم به. هكذا تقتضي التقاليد. ونؤكّد على عدم انفصامنا، مبرّرين أنها من تلك التقاليد المحبّبة. نبرّر تعلّقنا بها من دون أن ندرك أننا نتمسّك بها في لاوعينا، وأنها تثير فينا حنيناً إلى زمن جميل ببراءته وتعيد إلينا هويّة أصليّة كانت لنا في أحد الأيام.. تعيد إلينا بعض توازن فقدناه في يومياتنا.

***

صبيحة "سبت النور"، تُحضَّر العدّة.. بيض بلديّ أبيض وأقراص ألوان وخلّ منزليّ الصنع وقشّ أخضر وسلّة القشّ البنيّة التي تحتفظ بها الوالدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، للمناسبة حصراً.

وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، تقرع أجراس كنيسة البلدة قبل أن يعلو صوت فيروز عبر مكبّرات الصوت وهي ترنّم "المسيح قام من بين الأموات، ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور". حينها فقط، توضع قدرة الماء على النار، ويبدأ سلق البيض. خمس عشرة دقيقة، وتبدأ عمليّة التلوين مع ابتسامة عريضة واغتباط خاص لا يشبه أي بهجة أخرى، في أي موسم آخر.

هو اغتباط يعود ويستمرّ بالعودة، في مثل يوم السبت هذا، منذ سنوات طويلة. في ذلك الزمن، قبل سنوات طويلة، كانت الوالدة تحرص على اعتماد الألوان الطبيعيّة. وكان الصغار يقطفون الأعشاب التي تحدّدها لهم، لإنجاز المهمّة. اليوم اختفت بعض تلك الأعشاب من الحيّ، في حين أن ما تبقّى لم يعد ينبت في "بيئة نظيفة". فالعمران ازدهر في البلدة الصغيرة.

***

في وسط طاولة غرفة الطعام، توضع سلّة البيض الملوّن. أنظار الجميع تتجه صوبها، لكن لمسها محظور قبل صباح الأحد، موعد الطقس الآخر المنتظر: التفقيس.

تنتهي المباراة ويحين وقت التهام البيضة المهشّمة. لا يمكن تفويت تناولها، وإن كانت الأطباق المتوفّرة كثيرة. لبيضة العيد مذاق لا يشبه أي مذاق آخر. هو مذاق يعيدني إلى زمن بعيد، ربما إلى المرّة الأولى التي تناولت فيها بيضة مسلوقة ملوّنة. مذاق يثير فيّ حنيناً إلى طفولة بعيدة.. إلى زمن انقضى.

لم أعد أذكر متى بدأ هذا المذاق يعود بي في الزمن. ربما، يوم قرأت رواية الكاتب الفرنسي مارسيل بروست "في البحث عن الزمن المفقود". فيها يصف بروست تلك اللحظة، عندما أعاده مذاق حلوى "المادلين" إلى طفولة غابرة. ويتحدّث هنا المحللون عن "وجدان عاطفي".. تلك الحلوى ما هي سوى دليل على ذلك الماضي الذي يعود ليباغتنا لا إرادياً.

المساهمون