تجهيل الموصل.. "داعش" يفرض التعليم على أبنائها بشروطه

تجهيل الموصل.. "داعش" يفرض التعليم على أبنائها بشروطه

05 مارس 2015
عوائل كثيرة ترفض إرسال أولادها إلى المدارس (فرانس برس)
+ الخط -

لم يخطر في بال المدرّس والمربّي العتيق أحمد أسعد، أن تؤول حال مدارس مدينة الموصل (شمال العراق)، إلى الواقع المؤلم الذي تعيشه اليوم، بعدما كانت المدينة منارة للعلم والعلماء، ومضرب الأمثال بالثقافة والعلوم والآداب. فهي دون المدن العراقية كافة، كانت تحقق سنوياً، أعلى النسب والنتائج في مستوى الدراسة في مختلف المراحل. واليوم، تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش)، هي تعيش أسوأ أيامها وأحلكها. فقد هجرها عدد كبير من تلاميذها وطلابها، رافضين (أو أهلهم) "الالتزام بتعليمات التنظيم المتشدّد، الذي ينوي تغيير مناهجها، وبثّ أفكاره الظلاميّة في عقول الفتية، لينشئ جيلاً لا يعرف إلا القتل والخراب".

وكان ما يسمّى بديوان التعليم في تنظيم "داعش" في الموصل، قد أصدر تعليمات ألغى بموجبها مناهج دراسيّة كثيرة، وأبقى فقط على ثلاث مواد، هي مادة التربية الإسلاميّة واللغة العربيّة والرياضيات، في حين أضاف حصة تربية جهاديّة للتلاميذ الذكور، ودفع بالفتيات إلى ترك مقاعد الدراسة في سن مبكرة. كذلك، خفّض سن القبول في الدراسة الابتدائيّة من ست سنوات إلى أربع، وقلّص سنوات الدراسة في تلك المرحلة من ست سنوات إلى أربع، والمتوسطة من ثلاث إلى سنتَين ومثلها الدراسة الإعداديّة والجامعيّة. إلى ذلك، ألزم إدارات المدارس وجامعة الموصل، بوضع لوائح بأسماء المدرّسين غير الملتحقين بالدوام، بعدما وصفهم بـ "الفارين"، تمهيداً لمصادرة أملاكهم ومنازلهم. فهو توعّد بعقوبات صارمة بحق هؤلاء، وبحقّ الذين يسكنون في المناطق الخاضعة للحكومة العراقيّة. من جهة أخرى، فرض ارتداء الخمار حتى على التلميذات الصغيرات. وهذه التعليمات وغيرها جعلت عوائل كثيرة تمتنع عن إرسال أولادها إلى المدارس.

ويقول أسعد إن حال مدارس الموصل "تدمي القلب. عدد منها شبه فارغ، بعد امتناع التلاميذ عن مواصلة التعليم، بسبب تشدّد داعش وتغييره المناهج، وتدهور الأمن لا بل انعدامه والقصف المتكرّر، وغياب الخدمات الضروريّة من كهرباء وماء واتصالات وغيرها". ويخبر أن "في مدينة الموصل، أكثر من ألفَي مدرسة تغطي مختلف المراحل الدراسيّة، وتضمّ إدارات ومدرّسين يُشهد لكفاءتهم وخبرتهم. فهم خرّجوا أجيالاً كثيرة بلغت مناصب عليا في الدولة. لكن عدداً كبيراً من بين هذه الكوادر التعليميّة والتدريسيّة والموظفين، غادر الموصل اليوم، هرباً من قسوة التنظيم وتشدّده، وبحثاً عن الأمان لعائلاتهم وعن فرص حتى يكمل أولادهم الدراسة بشكل صحيح".

ويلفت أسعد إلى أنه يحاول "إيجاد طريق لمغادرة الموصل مع عائلتي إلى إقليم كردستان، والالتحاق بزملائي الذين سبقوني والتدريس في مدارس الإقليم. لكن المشكلة تكمن في إغلاق كل الطرقات التي تربط الموصل بالعالم الخارجي، ومنع داعش خروج المواطنين منها، مهما كانت الأسباب. وقد وصل الأمر بعناصر التنظيم إلى تهديد سائقي المركبات بمختلف أنواعها، بالاعتقال والقتل إذا حاولوا نقل مواطنين إلى خارج الموصل".

إلى ذلك، من بقي في الموصل وظلّ يلتحق بمدارسها على الرغم من سيطرة داعش، له أسبابه، بحسب ما تقول المدرّسة نغم طه. تضيف: "أنا مضطرة لأنني فقيرة الحال ولا أملك المال اللازم للنزوح والعيش في مناطق أخرى. كذلك فإن أطفالي صغار، واثنان منهم معوّقان يصعب نقلهما من مكان إلى آخر". وتشدّد قائلة: "أنا ملزمة بذلك على الرغم من أنني غير مرتاحة بسبب تضييقات داعش علينا، وفرضه الخمار والتدخل في شؤون المدرسة والتعليم فيها".

وتؤيدها بذلك مديرة إحدى المدارس الابتدائيّة - فضّلت عدم ذكر اسمها -، مضيفة أن "من يغادر المدينة ويترك وظيفته، يتعرّض بيته وأملاكه للمصادرة من قبل التنظيم، بالإضافة إلى إنزال عقوبات صارمة بحقه، في حال ألقي القبض عليه في أثناء مغادرته المدينة". وتؤكد على أن "من بقي في الموصل من كوادر تعليميّة، ومن موظفين في الدوائر الحكوميّة، ليس بيدهم حيلة وهم لا حول لهم ولا قوة". وتعبّر عن استغرابها من الصمت الحكومي والدولي، تجاه ما تشهده الموصل من تخريب متعمّد يشمل كل مفاصل الحياة.

وعلى الرغم من التزام بعض الكوادر التعليميّة بالدوام في المدارس، فإنهم لا يحصلون على مستحقاتهم الماليّة ورواتبهم الشهريّة بشكل منتظم، لأسباب مختلفة ترتبط بظروف الموصل، وسيطرة داعش عليها والحصار الحكومي المفروض على محافظة نينوى ككلّ.
وتقول المدرّسة إيمان فيصل: "منذ شهرَين لم نتسلم رواتبنا. هذا أمر متعمّد من قبل وزارتَي التربية والماليّة، اللتَين لا تستجيبان لمناشداتنا ومطالبنا بهذا الخصوص. كأنهم يعاقبوننا". تضيف: "تسلمنا رواتبنا لبضعة أشهر، مذ احتل الموصل في شهر يونيو/حزيران الماضي، وذلك عن طريق وسيط. لكن الطرقات مقفلة اليوم، وثمّة مخاطر وتهديدات كثيرة تعترض المسافرين. لذا على حكومة بغداد إيجاد حلّ لمشكلتنا والعمل على توصيل رواتبنا".

وعلى الرغم من أن التدريس جارٍ في مدارس محافظة نينوى وجامعتها ومعاهدها، إلا أن أعداد التلاميذ والطلبة الملتحقين بها قليل جداً، وخصوصاً تلاميذ المتوسطات والإعداديات، وطلبة معاهد وجامعة الموصل. فإلى ظروف المحافظة واحتلالها، يمنعهم سوء الخدمات والبطالة المتفشية فيها، من الالتحاق.

ويقول كرم فتحي وهو أحد السكان: "نخشى إرسال أولادنا بسبب المتشددين، وهيمنتهم على كل مقدرات المحافظة. فهذا يدفع في اتجاه تخريج أجيال من هذه المدارس، لا سامح الله، لا تعرف سوى الإرهاب والقتل والتطرّف".

يضيف أن "هذا التنظيم يحاول اليوم فرض غرامة على التعليم، إذ ألزم إدارات المؤسسات التربويّة، بجمع مبالغ ماليّة شهريّة من التلاميذ كبدل دراسة، وحدّدها بمبلغ 25 ألف دينار عراقي (21 دولاراً أميركياً) على كل تلميذ في المرحلة الابتدائيّة و50 ألف دينار (42 دولاراً) للمتوسطة والإعداديّة و75 ألف دينار (63 دولاراً) للدراسة الجامعيّة والمعاهد. وهو بهذا يُحكم الخناق على الأهالي الذين يشكون من تفشي البطالة في المحافظة، والتي بلغت نسبها بحسب تقديرات مهتمّين 85% من السكان، وخصوصاً بين فئة الشباب الذين يستدرجهم داعش في هذا المجال، ويستغلّ احتياجهم للمال بغية ضمّهم إلى صفوفه".