برج الصالحي... قرية تونسيّة سكانها صمٌ بكمٌ ولغتهم الإشارة

برج الصالحي... قرية تونسيّة سكانها صمٌ بكمٌ ولغتهم الإشارة

30 ديسمبر 2015
عائلة تتعايش مع أربعة من أطفالها الصم والبكم(العربي الجديد)
+ الخط -
حوالي 100 كلم، هي الطريق التي قطعناها للوصول إلى برج الصالحي، شمال شرق تونس، مسالك فلاحية وطرق غير معبّدة.

تلاءت برج الصالحي، القرية التي اكتسبت اسمها من برجها المطل على البحر الأبيض المتوسط، واعتبرت منذ الثمانينيات قرية الصم والبكم، لتقطع سيلا من الأفكار ازدحمت في الذهن، بدت وكأنها لوحة رسمت بيد فنان، شامخة في علوّ وكبرياء رغم أنها خرساء لا صوت لها باستثناء صوت ارتطام الأمواج المنكسر على الصخور، وصفير الرياح.

يبلغ عدد السكان في برج الصالحي، حوالي 1100 نسمة، لكن تعاني عشرات الأسر فيها من إعاقات مختلفة، وفي طليعتها الصم والبكم، وهي الظاهرة الأكثر انتشارا في القرية، حيث يقدّر العدد بحسب إحصائيات رسمية عن وزارة الشؤون الاجتماعية، بما بين 80 و100 شخص، وكانت المأساة ستتضاعف لولا تطويق الأزمة.

في بيت متواضع يعيش أيمن، شاب في الـ25، وسط أسرة تشكو قلة ذات اليد، والده أخرس، ووالدته طريحة الفراش، ومع ذلك يتمتع الشاب العشريني بموهبة خارقة في الرسم، كانت صوره على جدران إحدى المدارس في القرية، وفي بيته.

رسم أيمن صورا عن تونس التي طالما حلم بها، وزين علمها الموشح بالأحمر والأبيض، ولكن قد تكون خذلته، كما خذله جل السياسيين الذين تعاقبوا على الجهة على مرّ العقود الماضية، ليقدموا الكثير من الوعود المعسولة.
كان أيمن مرشدنا لزيارة بعض العائلات، وأصدقاء له في الجهة، أغلبهم لا يتكلمون ولا يسمعون.
مررنا بمسالك زراعية للوصول إلى ضيعة عمّه علية، هناك توجد زوجته وداد وأبناؤه الـ4 البكم أيضا.

علية، شيخ أبكم، أقعده المرض وضيق ذات اليد، كان يشعر بالحسرة والألم على أرض افتكّت منه غصبا، لإقامة مشروع لإنتاج طاقة الرياح، تلك الطاقة التي يعتقد عدد من سكان القرية أن وراءها لعنة أصابتهم.

يعود فقدان حاستي النطق والسمع لدى عائلات كثيرة في برج الصالحي، إلى زواج الأقارب، فأغلب سكان القرية يتزوجون من أقاربهم، والصالحي هنا يتزوج من صالحية.
زوجة أحد أبناء علية، وقريبة العائلة في نفس الوقت، تدعى نورة، تقول إنه أمام انتشار الظاهرة في القرية فإنه من الطبيعي جدا أن تتزوج فتاة تتكلم بشاب أصم وأبكم، موضحة أن أغلب العائلات لا ترفض مثل هذه الزيجات.
وأكدت أنها تتواصل مع زوجها وعائلته عن طريق الإشارات والحركات، فلغة الإشارات هي اللغة الموحدة للجميع.

كانت ابنتها رتاج التي لم تكمل عامها الثاني، تلعب وتمرح، وتركض وراء جدتها.
رتاج لا تدرك أنها ستتعلم لغة الإشارات مبكرا، وأنها ستتخاطب مع والدها وجدتها وأعمامها بلغة غير تلك التي نشأ عليها أترابها.
تشرح والدتها: "ابنتي تتكلم، كنت سأقبل فكرة أن تولد طفلتي خرساء، فهذا الأمر لا يزعجني البتة، بل يكاد يكون طبيعيا في قريتي التي يوجد بها عدد كبير من السكان لا يتكلمون، ولكن ما يخيفني هو الإعاقة الذهنية والجسدية".

تعتقد نورة كغيرها من سكان القرية، من محدودي التعليم، أن طاقة سلبية في المنطقة، متأتية ربما من البحر، أو من الرياح وراء انتشار الإعاقات والأمراض ببرج الصالحي.
أهالي البرج لم يجدوا سوى البحر ملاذا لهم، وأغلبهم لا يملكون مراكب متطورة بل يصطادون بطرق تقليدية.
حسين الصالحي، ابن الـ29 ربيعا، شاب فقد حاسة النطق، كان عائدا لتوه من البحر على دراجته النارية، قال لنا بلغة الإشارة التي نقلها إلينا أحد أصدقائه: "حالي كحال عديد الشباب في القرية، نحن نعاني التهميش، والإقصاء، والسلطات تتجاهلنا منذ عدة أعوام، ولولا البحر لمتنا جوعا، إذ لا تشغيل ولا أي آفاق أمامنا".

أثناء زيارتنا للمنطقة، اعترضنا بعض الصم، نقلوا لنا أفكار شباب البرج، من فاقدي النطق، بعضهم عاطلون من العمل، وآخرون يعانون التهميش، وهناك من لديه زوجة وأبناء، أو شقيق أبكم، لا وسائل للترفيه ولا نوادي يقصدونها، المكان الذي يقصدونه هو مقهى "الوليد"، وهو المقهى الوحيد في القرية، هنا يجتمعون ويرفّهون عن أنفسهم.

يوجد في البرج محل وحيد لبيع المواد الغذائية، يقول صاحب المحل، ويدعى لطفي بلاغة، إنه تعلم لغة البكم، وإن السكان أوجدوا طرقا في التواصل والتعايش في ما بينهم.
ويشار إلى أن السلطات التونسية لجأت إلى وصفة بسيطة وناجعة لمعالجة الظاهرة، والحد من مأساة قرية برج الصالحي، إذ عمدت إلى نصح الأهالي بالابتعاد عن زواج الأقارب، فانفتح الشباب على مناطق أخرى، وتصاهروا مع عائلات من قرى ومدن مجاورة، وهو ما قلص الظاهرة تدريجيا.

ساهم تركيز الإعلام على معاناة سكان القرية والحملات التوعوية التي نظمتها مراكز الرعاية الصحية للأهالي، في تجنب الزواج من الأقارب وبالتالي تفادي المزيد من حالات فقدان السمع عند الولادة.
ويذكر أنه منذ أواخر التسعينيات تقريبا لم يعد هناك مواليد جدد بكم باستثناء بعض العائلات التي سبق أن حملت الإعاقة.

توجد في برج الصالحي مدرسة أنشئت خصيصا للأطفال الصم ثم تطورت لتحتضن بقية الأطفال المعوقين من مختلف المحافظات القريبة، ويجد هؤلاء الرعاية الضرورية والتكوين في الحرف اليدوية، ويقدم مركز الصم أنشطة متنوعة لمساعدتهم في الاندماج في الحياة الاجتماعية.
تقول مديرة المدرسة، وتدعى فاتن، لـ"العربي الجديد"، إنّ المدرسة تضم 45 طفلا من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأوضحت أن أعمارهم تراوح بين 6 و28 عاما، يتلقون تكوينا في التربية الخصوصية وينشطون في ورشات متعددة الاختصاصات، ومنها الخياطة وصناعة الجلد والصيد البحري.

وأكّد أحد سكان القرية ويدعى بكار، لـ"العربي الجديد"، أن عديد الأسر تشكو قلة ذات اليد، وسط غياب موارد رزق كافية، فباستثناء بعض المنح البسيطة التي يتحصل عليها أغلب المعوقين من الدولة فإنه لا رواتب ولا مداخيل.
ولفت إلى أن المنطقة عانت من مشكلة التزود بالمياه الصالحة للشرب، ولكن في الأعوام الأخيرة تم تزويد أغلب سكان البرج بالمياه الصالحة للشرب، حيث تغطي شبكات المياه حوالي 95 بالمائة من البيوت حاليا.

يتمسك الأهالي بأرض الأجداد بعد أن أُقيم عليها مشروع قبل الثورة التونسية لإنتاج طاقة الكهرباء من قوة الرياح، ويحتمون بـ"ناطق رسمي" يوصل صوتهم إلى الجهات المسؤولة.

دلالات

المساهمون