"البويجي" الذي لمّع الأحذية ليعلّم أولاده

"البويجي" الذي لمّع الأحذية ليعلّم أولاده

28 يونيو 2014
لا تزال مهنة "ماسح الأحذية" مطلوبة(تصوير: حسين بيضون)
+ الخط -

يرتدي الثياب نفسها منذ سنوات، ويحمل على ظهره صندوقاً خشبياً يحوي في داخله زجاجة الصبغة وقطعة قماش للتلميع. يسأل بلباقة الجالسين نفض غبار أحذيتهم منادياً: "حذاء جديد يا أستاذ؟ أتريد تلميعه؟" فإذا أجابه بالقبول، وضع كرسياً خشبياً صغيراً تحت قدمي الزبون. يُمسك بالحذاء ويبدأ بطلائه. يبتسم العم أبو محمد الخمسينيّ (اسم مستعار) المعروف بـ"البويجي" بخجل؛ يعكس حزناً عميقاً يختزنه في داخله.

البطل الصغير

وهَبَ أبو محمد طفولته وشبابه لمهنته. ورغم نظرة البعض السلبية تجاه مهنته، يصف نفسه اليوم بـ"البطل الصغير" الذي استطاع "إحياء" عائلة كان مصيرها مهدداً بالفقر.

يسرد قصته لـ"العربي الجديد" ويقول إن "الظروف الاقتصادية الصعبة التي كنا نعيشها في سورية دفعت بوالدي إلى الهجرة. جئنا إلى لبنان. عمل والدي منذ قدومه ماسح أحذية. كان يطلب مني مرافقته لتعلّم مهنة مفيدة ومنتجة".

ويضيف أبو محمد: "لم أكن مقتنعاً بالفكرة بعدما انتقلت من مقاعد الدراسة إلى الشارع. تركت حقيبة كتبي مخبأة في خزانة معدنية مهترئة، وحملت عدّة العمل. في بداية الأمر، فرحت بالمال القليل الذي كنت أجمعه آخر النهار. لكن شعور الفقر والعوز بدأ يراودني في كل مرة كنت أشاهد فيها أطفالاً من عمري يمضون وقتاً ممتعاً في مدارسهم ومع أصدقائهم، فأتحسّر على أيام جميلة مضت وأشتاق لزملاء الدراسة في سورية".

لكن أبو محمد لم ييأس يوماً. يقول: "قررت أن أثبت للعالم أن هذه المهنة مربحة لمن يتقنها. وها أنا اليوم أجني أضعاف ما كنت أجنيه في الماضي. أكسب أكثر من ألف وثلاثمئة دولار في الشهر".

عنصرية.. وإهانات

يحصر أبو محمد نطاق عمله في منطقة الروشة في بيروت. اعتاد التجوال بين أزقتها لفقدانه الشعور بالأمان خارج محيطها. يعتبر أن جنسيته السورية قد تجلب له المتاعب وخصوصاً في ظل الأوضاع الراهنة التي يمر بها السوريون في بلاد اللجوء، والعنصرية حيالهم.

وفي ما يخص زبائنه، يعلّق أبو محمد ضاحكاً: "في بعض الأحيان، كنت أصادف أشخاصاً يوجهون الإهانات لي، أو يمتنعون عن دفع المال بعد الانتهاء من مسح أحذيتهم. منهم من كان يعطيني ربع القيمة شفقةً. أما اليوم، فقد أصبح عندي زبائن من الطبقة الراقية. هؤلاء لا يترددون في اعطائي اكرامية من العيار الثقيل".

حلم أبو محمد أن يصبح مهندساً أو طبيباً أو أستاذ رياضيات. لكنه اضطراره إلى العمل وتحمّل المسؤولية باكراً حالا دون ذلك. ورغم أنه لا يخجل بمهنته التي تعلمها من والده وأعمامه، إلا أنه رفض توريثها لأبنائه وأحفاده.

يقول: "ابني البكر أصبح مهندساً وينادونه أستاذ. ويدرس الصغير الأدب العربي. أما ابنتي فتزوجت بعدما أكملت دراستها الثانوية". يصمت قليلاً قبل أن يتابع حديثه وهو يشير إلى عدة العمل: "لهذا الصندوق فضل كبير في تعليم أولادي وإعالتهم وإنقاذ عائلتي من الفقر".

صحيح أن عدداً من المهن الحرفية والشعبية اختفى مع مرور الزمن، إلا أن مهنة "ماسح الأحذية" لا تزال تحافظ على دورها على حد قول أبو محمد. ويضيف: "رغم ظهور أدوات حديثة للاهتمام بنظافة الحذاء، لم يستطع الرجل المسنّ الذي يستمتع بتلميع حذائه خلال تصفحه الجريدة الاستغناء عنّا. كذلك الشباب الذين يضطرون إلى طلب المساعدة منا لضمان أناقتهم قبل ذهابهم إلى موعد عمل مهم أو لقاء من يحبون".

ينهي "البويجي" كلامه ليكمل جولته بثقة. ويقول: "بعض الزبائن يرسلون لي أحذيتهم مع العاملين لديهم لأنظفها وأمسحها بصبغة أبو محمد ذات الجودة العالية والخالية من المواد الصناعية غير النافعة".

دلالات