تونس: سجناء يفرون من ظلمة الجدران إلى نور التعليم

تونس: سجناء يفرون من ظلمة الجدران إلى نور التعليم

تونس
D8A6CEA0-1993-437F-8736-75AB58052F84
وليد التليلي
صحافي تونسي. مدير مكتب تونس في العربي الجديد.
11 يونيو 2014
+ الخط -

الاثنين هو يوم الزيارة، نساء وشيوخ، آباء وأمهات وزوجات. دموع وحيرة على وجوه تحمل شيئا من دفءٍ مفقودٍ يبقي السجين على اتصال مع عالم يحلم بالعودة إليه.

يقع سجن "المرناقية" الشهير خارج المدينة التي تبعد نحو 30 كيلومتراً عن العاصمة تونس. حراسة مشددة وحواجز تقف عندها في كل مرة لتظهر ما يفيد أنك شخص يحق له المرور إلى الحاجز التالي.

عندما تدخل إلى قسم الاستقبال في باب السجن الأول، تبدأ باكتشاف عالم لا تعرف عنه شيئاً، عدا ما تسرده الأغاني الشعبية أو أفلام السينما، لكنه الواقع.
الصورة الأولى، شباب من أعوان السجون يبذلون جهداً واضحاً في إرشاد العائلات إلى أبنائهم، ويتم التعامل بكثير من اللطف.

هل تغيّر السجن التونسي؟ سؤال احتفظنا به إلى ما بعد اللقاء المنتظر.. لقاء شبان أعلنوا العصيان على اليأس والتمرد، على الأمر الواقع، وقرروا من خلف قضبان السجن أن ينسجوا قصص نجاح بخوض امتحانات الثانوية العامة، والدخول إلى الجامعات. ينجحون أو لا، ليس ذلك هو المهم، الأهم أنهم قبلوا التحدي واخترقوا الجدران، وأكدوا أن الأمل أكبر دائماً من اليأس.

دخلنا إلى قاعة الامتحانات، مروراً بأقسام السجن المختلفة، والمصنفة حسب نوعية الأحكام ونوعية السجناء. كانت المجموعة منهمكة في إنهاء امتحانات الفترة الصباحية.
كان لقاؤنا الأول مع بلال ز. (21 عاماً)، الموقوف بتهمة إرهابية، ولم يصدر

بشأنه حكم قضائي بعد.
سألناه عن مفارقة الأمل والسجن فقال: "خطرت ببالي فكرة الالتحاق بامتحان البكالوريا بعدما أخفقت فيه العام الماضي، ورغم دخولي إلى السجن، لم أمنع نفسي من دخول الامتحان وأنوي النجاح بإذن الله، ورغم صعوبة الأمر وغياب الظروف الملائمة فلن أيأس، ورغم أن الجسد مأسور فإن العقل حرّ والروح تطمح إلى بلوغ أهداف كبيرة، والوصول إلى مراتب عليا بالمجتمع".

داخل السجن التقينا أيضاً عدداً من الشباب الموقوف بتهم تتعلق بالإرهاب، وبالرغم من حالة الغضب الشعبي تجاههم، فإن إدارة السجن لم تمنعهم من تحقيق مطلبهم، مثل بقية السجناء الذين أعربوا عن رغبتهم في اجتياز الامتحانات.

نزار ح.، موقوف منذ أربعة أشهر في قضية تمويل لها علاقة بالإرهاب، يقول نزار: "كنت أدرس خارج السجن كتلميذ في البكالوريا قبل اتهامي، ولما دخلت السجن قررت إكمال الدراسة، ولم أرد أن يتوقف سير حياتي، وإن يسر الله لي فأتمنى العودة إلى المنزل والنجاح في الامتحان".

المعروف أن أغلب السجناء في تونس هم المتهمون في قضايا السرقة والمخدرات التي توقع أعداداً كبيرة من شباب في مقتبل العمر وتقضي على أحلامهم، غير أنها لم تثنِ مهدي س. المحكوم بالسجن لسبع سنوات بتهمة ترويج المخدرات من الإصرار على اجتياز الامتحان.
ويقول مهدي: "بسبب طول المدة في السجن، قررت أن أستفيد بتحقيق شيء في هذا المكان، وبالتالي قررت الدخول إلى الامتحان، أما الظروف فهي عادية، فنحن نقوم بمذاكرة الدروس في غرفنا العادية مع بقية السجناء، ثم ننتقل إلى غرف خاصة بالممتحنين قبل ثلاثة

أسابيع من موعد الامتحانات، وهو ما يتيح لنا أن نتهيأ جيداً، وبالنسبة إلى أدوات المذاكرة والكتب والمراجع، فإن أهالينا يقومون بتوفيرها، وإذا بقيت في السجن فسأواصل الدراسة. مرت ثلاث سنوات من سبعة، وأتمنى العودة إلى المنزل في أقرب وقت".

ويقول منير نصير، الحاصل على الماجستير في علم النفس، والمستشار العام للسجن منذ أكثر من عشرين عاماً: "السجين الذي يلتجئ إلى الدراسة، هو في الواقع يهرب من العقوبة، ويدخل إلى عالم آخر هو الجامعة، وتسمّى هذه الظاهرة حسب دراسات أوروبية

"الفرار من فوق" أي الفرار من واقع السجن عبر التطور والارتقاء، وخلال فترة عملي الطويلة بالسجون، تابعت مراحل التعليم والتنشيط الثقافي والتكوين، لاحظت تحمس العائلات لأبنائهم الذين يقررون اجتياز امتحان البكالوريا، التي تتحول إلى ما يشبه الاحتفال، خصوصاً بعد تحقيق بعضهم النجاح".
واقترح نصير أن تقام مدرسة داخل السجن، توفر للسجين الطالب ما يتوفر لنظيره في الخارج، وتتاح فيها المتابعة والتأهيل والفرصة الكاملة للتعلم.

لم نلتق داخل السجن بالتلاميذ الذين يجتازون امتحان البكالوريا فقط، وإنما كان هناك طلاب جامعات أيضاً، من بينهم أمين خ.، وهو موقوف منذ خمسة أشهر بسبب استهلاك مادة مخدرة.
يقول أمين: "أنا طالب بمدرسة عليا في إدارة الأعمال، ودخلت الامتحان الجامعي منذ أيام، وتمكنت من النجاح وأنا في السجن. كل إنسان قادر على النجاح في أي مكان إذا ما توفرت العزيمة والإرادة".
ويضيف أنه ينوي حال الخروج من السجن أن يواصل دراسته الجامعية، وأمين كان يحتج على مكوثه في السجن، في حين أن عزيز عمامي (المدون الشهير) أطلق سراحه منذ فترة، وألح في إبلاغ احتجاجه.

داخل مكتبة السجن، التقينا الأستاذة "مريم التيساوي" التي تدرس الماجستير حول التنشيط

الثقافي بالسجن.

"مريم" دعتها إدارة السجن لتأهيل المساجين في نادٍ للدمى العملاقة، ضمن النشاط الثقافي داخل السجن، فقررت بعد ذلك أن تعد بحثاً عن أهمية الثقافة في تأهيل السجناء، وهي تصر على ضرورة بذل جهد في إدماج السجين اقتصادياً واجتماعياً بعد الإفراج عنه، وترى أن السجين لابد أن يستعد ويتأهل مهنياً حتى يكون قادراً على الاستفادة مما تعلمه داخل السجن، عندما يخرج إلى الحياة العامة.

تحقيقنا عن التلاميذ المساجين لم يقتصر على سجن المرناقية، وإنما تجاوزه إلى الجنوب التونسي، وتحديداً إلى مدينة قبلي حيث يقبع أنيس ن.، المحكوم بالمؤبد لارتكابه جريمة القتل

العمد وهو من مواليد سنة 1988.
تحدثنا إلى مدير السجن القبطان علي الفقيه، الذي أكد أن إدارة السجن وفرت للسجين مكتباً خاصاً للاستعداد للامتحان، وأن عائلته وفرت المراجع، وأن هناك طلاباً داخل السجن اجتازوا امتحانات جامعية. وجرى حوارنا مع أنيس  عبر مدير السجن، لأن القانون يمنع التحدث مباشرة مع السجين عن طريق الهاتف، لكنه كان حواراً ملفتاً.

قلنا لأنيس: "المؤبد يعني فقدان الأمل والامتحان يعني كل الأمل، فكيف تعيش هذه المفارقة؟".

فأجاب: "أريد ان أقول للناس إنني لست مجرماً، نعم أخطأت وارتكبت جرماً نتيجة تهور إثر معركة، ولكني لست مجرماً، وما زال أمامي التعقيب (التظلم من الحكم) ويمكن أن تحكم المحكمة بتقليل عقوبتي، ولكن لا أحب أن أفقد الأمل".
ويضيف: "حتى عائلتي في البداية لم تتفاعل مع رغبتي في دخول الامتحان بالشكل المطلوب، لكن أمام إصراري تضامنت معي، ووفرت لي المراجع وشجعتني على المواصلة، أما عن زملائي داخل السجن فهناك من يستغرب الأمر، ولكن أغلبهم يشجعني".

هل تغيرت السجون التونسية؟ سؤال حملناه إلى مدير السجن المدني بالمرناقية، المقدم كمال المقايدي في آخر محطات رحلتنا فقال: "المؤسسة السجنيّة هي واحدة من مؤسسات الدولة التي تسعى إلى التطور وإلى تقديم نتائج أفضل من حيث الإصلاح والتأهيل، فنحن مؤسسة إصلاحية قبل أن تكون عقابية، والفلسفة الجديدة لهذه المؤسسات تقوم على الإصلاح وإعادة التأهيل والإدماج في المجتمع من جديد، وهي ليست التجربة الأولى في امتحان البكالوريا".
وبخصوص هذا الموضوع، فنحن لدينا من السجناء من حصل على الشهادة الجامعية في السجن، ونحن نحاول رعاية كل الطلاب كما نحاول الاقتراب منهم وتوفير المناخ الطيب والملائم للنجاح، فهذا الامتحان يعتبر نافذة للسجين للعودة إلى المجتمع كعنصر فعال.
وسألناه عن مشكلة اكتظاظ السجون، التي تؤرق الجمعيات الحقوقية التونسية، فأجاب بأن الاكتظاظ "مشكلة حقيقية داخل السجون التونسية، وأن أكثر المسجونين من المتهمين بقضايا السرقة والمخدرات، وهي تساهم بنسبة كبيرة في المشكلة". وقال إن الحل متعدد الأطراف و"نحن نتمنى أن يوفر المجتمع فرص عمل لهذه الفئات، لأن البطالة تجر إلى الجريمة، ولابد أن نحاول إيجاد عقوبات بديلة ونحاول تفعيلها، مثل خدمة المصلحة العامة أو العقوبات المالية التي يمكن أن تعود بالفائدة على خزينة الدولة، وتحل نسبياً من مشاكل السجون التونسية".

المساهمون