ما إلنا غيرك يا بحر

ما إلنا غيرك يا بحر

04 ابريل 2014
+ الخط -

لا ملاذ سوى البحر! لستُ أنا من يقول هذا الكلام بل كل السوريين الذين نزحوا إلى اللاذقية وطرطوس من كل أنحاء سورية الجريحة ، التي صار اسمها مُبطناً بالدم رغماً عنا.

يوم الجمعة، تحديداً في اللاذقية – ولأنه يوم عطلة – إذ لا ملاذ للسوريين إلا البحر، أقصد الكورنيش الجنوبي ، لتهدأ روحي المُضطربة بتأمل المدى الأزرق الذي يقاوم اللون الأحمر، ولأستدفئ بإخوتي السوريين الذين يسرحون قرب البحر. لا يمكنني أن أصف المشهد، كيف يمكن وصف حشد من الناس وقد التصقت أجسادهم من الزحام وبدوا كتلة واحدة، لا يمكنك أبدًا أن تتمشى قرب البحر، لأن الرصيفين المتقابلين – رغم عرضهما – مختنقان بالناس، واختلاف اللهجة يدل من أين نزح هؤلاء، من حمص ومن حلب ومن دمشق ومن دير الزور ، وهناك لهجات لا أميزها، عشرات الآلاف من السوريين النازحين -وبينهم طبعاً- سكان اللاذقية يلوذون بالبحر، ويحاولون تهدئة أرواحهم المذعورة والمُروَعة من هول ما يعيشونه بزرقته التي توحي بشيء من طمأنينة وسلام، حشد من النساء والأطفال يتمشون مشية النملة أو السلحفاة بسبب الازدحام، النساء يفصفصن "بزردوار الشمس" والأطفال يأكلون غزل البنات أو يبكون لأن أهلهم لا طاقة لهم على شراء دمية رخيصة أو حلوى لذيذة. شعب لم يبق له من رفاهية وإحساس بالدفء والحياة سوى بزر الشمس والشمس السخية والحنون في بلادنا.

لكن المشهد البانورامي لهؤلاء الفارين من بيوتهم التي كانت ذات يوم آمنة، هؤلاء الذين يُقدّرون بأكثر من مليون نازح في اللاذقية وحدها، يثير القلق والألم ، ليس المشهد طبيعياً، ليس ثمّة في الكرة الأرضية منظر"مشابه" لأناس يقصدون البحر كما نجد في اللاذقية، حشد من مئات الآلاف من الأجساد المتزاحمة المُتراصة كما لو أنهم في مُعتقل! كما لو أنهم هاربون من قصف عنيف بكل أنواع الأسلحة والصواريخ والسكاكين والمجرمين الذين يتّخذون ألقاباً طنانة مُنافقة، حشد مُخيف من تزاحم ناس متألمين حتى النخاع لم يبق لهم سوى البحر، يلجؤون إليه ويرنون إلى زرقته لا لمجرد الاستمتاع بروعة بحر اللاذقية بل ليصلوا له: "يا بحر ما إلنا غيرك يا بحر". لا أبالغ ولا أكتب إنشاء!

ماذا بقي لهؤلاء السوريين الذين دُمرت بيوتهم ومات بعض من أبنائهم أو أقربائهم، وخسروا مصدر رزقهم، ولم يعد باستطاعة أولادهم الذهاب إلى المدرسة بل سرحوا في الشوارع يتسولون، ماذا بقي لهؤلاء الذين يبيعهم بياعو الكلام وتجار الحروب والسلاح كلاماً ويعدونهم بمساعدات لا يصلهم منها شيء، ماذا بقي لهؤلاء سوى البحر، سوى تلك النسائم الرطبة الدافئة تمسح وجوههم المُكفهرة براحة من حنان. كان علي أن أصمم على اختراق الحشد لأمشي على شاطئ الكورنيش الجنوبي، عليّ أن أذوب في الجموع الغفيرة أتنشق رائحة فاقت رائحة البحر التي أحبها، رائحة صار كل السوريين يُميزونها: رائحة الحزن.

لم يكن أحد من هؤلاء مُنتشياً بالمنظر، كانوا يتوسلون عوناً ما عجز الجميع عن تقديمه لهم بمن فيهم مجلس الأمن والدول العُظمى التي أثبتت عظمتها بالإمعان بإذلال شعب لا يريد سوى أن يعيش بأمان وكرامة وحرية، لم يبق لهم سوى البحر، لم يبق لهم سوى تلك الصورة التي تعبر عقولهم جميعاً – بلا استثناء – نساء ورجالاً وأطفالا،ً صورة مُوحدة تشارك بها معهم أحبائي السوريين النازحين: ماذا لو قُصف الساحل؟ أين المفر؟ والجواب المُوحَد الذي يقوله الجميع: نرمي أنفسنا في البحر. لم يبق للسوري من هامش أمان إلا أن يرمي نفسه في البحر، أو ربما يُبدع العقل السوري حوامات وطوافات يلجأ إليها من جنون اليابسة، ويعيش عائماً في بحر لن يطرده ويشرّده ويقتله ويذبحه لأن لا مذهب للبحر ولا طائفة ولا حزب، ولا حدود ولا خطوط حمر لا ينبغي تجاوزها – والكل يدعو إلى تجاوزها – البحر موطن دافئ رحيم كما قال محمود درويش: من الأزرق ابتدأ البحر.

لقد انتابني الذعر ذاته والحزن ذاته حين كانت تلك المشاعر تنقضّ عليّ وأنا أرى المجازر والقتلى والجنازات الجماعية والمقابر الجماعية والدمار الوحشي للبيوت ولكل ما له علاقة بالحياة، المشاعر ذاتها أحسستها وأنا أشق طريقي وسط حشود هائلة متدافعة إلى المجهول أو العدم، وجهها إلى البحر، كما لو أنني أشق جرحاً نازفاً وملتهباً منذ أكثر من عامين، لم يكن في هذا المشهد أيٌ من فرح أو بهجة بالحياة، أو استرخاء لذيذ مُنعش قرب البحر، لم يكن في المشهد إلا صورة كاشفة وموجعة لهول المأساة السورية، شعب مُروَع من هول معاناته وخسائره وإجرام العالم بحقه، شعب هام على وجهه ولجأ إلى البحر، وصراخه الصامت يمزق حنجرته مستعيراً صرخة طارق بن زياد: العدو من خلفي والبحر من أمامي. يا بحر اللاذقية كن وحدك رحيماً بالسوريين، يا بحر اللاذقية ما إلنا غيرك يا بحر.