قصة يحيى

قصة يحيى

25 ابريل 2014
أطفال سوريا بسمة مراوغة على وجوه تتألم
+ الخط -

 

يحق ليحيى ابن السنوات العشر أن يكون عنواناً لـ"جنيف 3" إذا عُقد، يحق لوجهه الطفولي الشاحب من الحزن وعينيه المُتسعتين من هول ما رأتا، ورأسه المنحني من الحزن كما لو أن عنقه النحيلة لا تقوى على حمله. يحق لصورة يحيى أن تُطبع على أوراق وجداول عمل المؤتمرين من كل الأطراف. يحيى غير الموجود بالنسبة إلى أسياد العالم والمتحكمين بمصير الشعب السوري، يحيى مجرد شبح بالنسبة إليهم، فمن يبالي بطفل سوري؟

التقيته صدفة في أحد مراكز توزيع المعونات للنازحين أحبتي السوريين، استوقفني التناقض بين طفل في العاشرة يجلس مقرفصاً على الرصيف وقد أسند جذعه النحيل إلى الحائط ووجهه كزهرة عباد الشمس تبحث عن دفء شمس سخية. كان يغط في نوم عميق وقد افترت شفتاه عن شبح ابتسامة وثمة خيط رفيع من اللعاب يسيل من جانب فمه، وحوله صراخ وضجيج وتدافع لمئات من النازحين الذين نفد صبرهم في انتظار المعونات لساعات.

كيف يغفو هذا الطفل بعمق وسط هذا الضجيج وزعيق السيارات والشاحنات، وصوت مكبر الصوت يصرخ بأرقام منتظري المعونات وأسمائهم. لوهلة اعتقدت أنه مُغمى عليه، واقتربت منه كما لو أنه مغناطيس يجذبني، وقرفصت بجانبه لأتأكد من حالته، وشعرت بيد خفيفة تلمس كتفي، استدرت لأجد شابة تبتسم لي ابتسامة ذابلة، كما لو أنها تُقدر اهتمامي بالصبي. قالت لي إنه نائم، ثم مسحت وجهها بيديها كما لو أنها تمسح غمامة حزن وقالت: هكذا هو دوماً نائم.

لا نشعر، نحن السوريين، بحاجة لأن نتعارف بالطريقة المألوفة، لا داعي إلى أن ينطق كل منا باسمه، يمكننا أن نتحدث مع بعضنا من دون أي مقدمات، فالحزن يوحّدنا، الحزن هويتنا وبطاقة تعريفنا، وتلك النظرة المكسورة من الحزن التي تعكسها عيوننا، هي الشفرة التي تجعل الغرباء كأنهم إخوة، إخوة في الجرح النازف والمأساة، لذا وجدتني أصغي بكل كياني لقصة يحيى ترويها لي أمه المنتظرة حصتها من المعونات. وكنت طوال الوقت أحدق بيحيى الغارق في النوم، ولا أعرف أي خاطر سخيف دفعني إلى أن أصفق بقوة بجانب وجهه كي أوقظه، لكن لم يرمش له جفن.

قالت إن حالته عجيبة ومُحيرة، فهو لا يستيقظ أبداً إلا إذا هزته بقوة، وأحياناً تضطر إلى صفعه على يديه أو رشق وجهه بماء بارد كي يفتح عينيه لتطعمه، قالت إن الطبيب النفسي شخّص حالته بصدمة عصبية، من أثر الحادثة الفظيعة التي شهدها ابن السنوات العشر.

كان يحيى طفلاً سعيداً، تلك السعادة الغريزية التي تشع من الأطفال، وكان يسكن في حي جرمانا في دمشق، واستأذن والديه ليرافق صديقه عامر ليشتريا أكياس بطاطا من بقال الحي، كان كل شيء عادياً وطبيعياً وآمناً، وكان يحيى وعامر يضحكان بلا سبب، ضحكة الفرح الخام، ضحكة الحياة التي يُفترض أن تكون نعمة، وفجأة دوّى انفجار وسقط شيء ثقيل على رأس عامر، وتحطم زجاج سيارات ومنازل، وهوى عامر والدم يتفجر كنافورة من رأسه، وأخذ يحيى يصرخ بعدما احتشد الجيران وحملوا عامر الذي مات فوراً لأن شظية الصاروخ ثقبت رأسه وهرست دماغه.

لم يُصب يحيى سوى بشظايا زجاج، تسببت بجروح طفيفة في وجهه، وظل لأيام يهذي أن على عامر أن يلاقيه ليشتريا أكياس البطاطا، وأعطاه الطبيب دواء مهدئاً. نزحت أسرته إلى اللاذقية، لأن انفجارات عديدة هزت حي جرمانا ولأن البيت تأذى بشكل كبير، مسحت الأم دموعها وقالت: ظل لشهر لا يتوقف عن الكلام، يؤكد لهم أن عامر لم يمت وأن رأسه المفلوع نصفين سيلتحم، ثم يضحك غير مدرك أن دموعه تتساقط غزيرة.

كان يقول لهم: نحن الأطفال مثل أفلام كرتون، مثل توم وجيري مهما تأذوا وتقطعوا شقفاً فإنهم يلتحمون من جديد، سألتها: ألم تعرضيه على طبيب نفسي؟ ضحكت بسخرية وبشيء من اشمئزاز من سؤالي وردت: طبيب نفسي، طبيب نفسي ونحن بالكاد نسد جوع معدتنا، وكما ترين أنتظر لساعات كي أحصل على شيء من معونات يسند معدة أطفالي الجياع؟ أخذت نفساً عميقاً وقالت: ماذا سيقدم له الطبيب النفسي؟

مات عامر أمامه في ذلك اليوم ولكن القتل والموت مستمران في سورية، والأطفال يشاهدون القتلى وأشلاءهم، يعرفون كل شيء.

حكت لي أن يحيى ظل بحالة هياج لمدة شهر بعد وفاة عامر، وبدا أنه عاد إلى طبيعته إذ صار يلعب مع أطفال الحارة في اللاذقية، ويطالب بحلوى النمورة التي يحبها، ويلح على أن يشتري له والده دراجة بدل دراجته التي تحطمت في الانفجار، إلى أن بدأ يغرق في الصمت، ولم يعد يذكر اسم عامر إطلاقاً، وبدأ ينسحب من العالم وينام، يظل نائماً ولا يستيقظ، رغم تقريع أهله ورغم أساليب الترغيب والترهيب فإنه يغرق أكثر وأكثر في النوم.

اعترفت لي بأن والده ضربه بقسوة ذات مرة وهدده ألا يستسلم للنوم، وأن يحيى غرق في النوم للتو بعد ضرب والده، سألتها: هل تسمحين لي بإيقاظه؟ ضحكت بمرارة وقالت: لن يبالي، سيفتح عينيه وينظر إليك من دون أن يراك، ويعود للنوم. ركعت قرب يحيى، مسحت بحنان على وجهه المُتعب رغم أنه غارق في النوم، ثم فركت شحمة أذنيه ورجوته أن يستيقظ، فتح عينيه منزعجاً ورمقني بلا مبالاة، وتململ، رجوته أن نتحدث قليلاً، فأغمض عينيه وعاد تنفسه ينتظم بعمق كتنفس النائم، كانت رموشه ترتعش قليلاً كما لو أنها تحاول طرد آثار كابوس عالق بها، كما لو أن دم عامر الساخن ملتصق بها.

تأملت جسده النحيل المنطوي كجنين متقوقع على نفسه خشية أذى يتوقعه كل لحظة، حاول يحيى أن يُصارع وحشية ألم يفوق قدرة طفل على تحمله وبقي لشهر يأمل أن يعود عامر ويكون مثل توم وجيري يرممان أنفسهما بمعجزة ذاتية، لكن عامر اختفى وترك صديق طفولته وحيداً وأعزل في مواجهة عالم وحشي الإجرام والقسوة. لم يستطع يحيى أن يفهم كيف أن الحياة حلوة، كما كان يؤمن ككل طفل، لم يستوعب عقله الطفولي كيف ينفلع رأس طفل بشظية صاروخ فيما هو يضحك آمناً ويتلمظ لطعم البطاطا اللذيذة التي سيشتريها من بقال الحارة. لم يفهم لماذا سقط العديد من الجيران والمارة مضرجين بدمائهم وبعضهم يسيل نخاعه من أذنيه وأنفه، لم يفهم لماذا أخذ يصرخ وهو في قلب المشهد الكارثي: هيا قوموا، هيا قوموا، كان يؤمن بأن ما يحصل مجرد مزاح ثقيل، مجرد لقطة من أفلام كرتون، حيث الكل يترمم ويعود للحياة مهما كانت الأذيات.

دفعة واحدة انكشفت ليحيى وحشية العالم وإجرامه، دفعة واحدة وجد نفسه أمام غول من الألم الذي يهد جبابرة، فلم يجد سوى رحمة النوم، الرحمة الوحيدة في سورية، أشفق عليه جسده أو جهازه العصبي فعطل أحاسيسه المؤلمة والحارقة وغطاه بسبات النوم الرحيم، هرعت أمه لتتسلّم المعونات، وتركته طفلاً مهزوماً من الحزن مرمياً على رصيف الحياة، هارباً من وحش الألم الحارق الذي خطف صديق طفولته وفرحه وإحساسه بالأمان.

كانت غيوم من الحزن تحوم حول وجه يحيى، وهو نائم، لم يكن نومه سوى ضماد سميك لجرحه النازف والذي لا يقل خطورة عن الجرح الذي أدى إلى موت صديقه، فشظية الصاروخ فلعت رأس عامر ومزقت روح يحيى وأحرقتها بنار الألم الكاوية.

عادت أمه لاهثة تحمل كيس المعونات ولكزت يحيى بقوة من كتفه وصرخت: هيا استيقظ سنذهب، تململ وانتصب وهو يترنح. أمسك بطرف عباءتها ومشى إلى جانبها وعيناه مُغمضتان. لا يستطيع يحيى أن يفتح عينيه ويواجه وحشية العالم، كان يجرجر قدميه وراء أمه المُثقلة بالمأساة بدورها، تأملتهما حتى غابا وسط الزحام، فيما صوتها الساخر يترجع صداه في أذني مُلخصاً حقيقة عيشنا وهول مأساتنا: طبيب نفسي، طبيب نفسي ليحيى وأنا بالكاد أطعم أطفالي النازحين الجياع.

كنت ويحيى وأمه ثلاثة وجوه من سورية الجريحة المُهانة، نتعلم العيش مع أقسى أنواع الألم وحشية، كنا مجرد أرقام: واحد، اثنان، ثلاثة. ثم خطرت لي فكرة جدية تماماً وليست جنونية، ألا يستحق يحيى أن يكون شعار "جنيف 3".

بعدما أكد لنا كل قادة الدول العظمى – العظمى في اللا أخلاق – وكل المحللين السياسيين، أن سنين دموية طويلة وسنين عجافاً بانتظار الشعب السوري. ليت أصحاب ربطات العنق الفاخرة الذين سيحضرون جنيف 3 يناقشون قصة يحيى، عساهم يجدون حلاً لاستغراقه الأبدي في النوم.

المساهمون