فرح طيور السماء وسنابل القمح

فرح طيور السماء وسنابل القمح

21 ابريل 2014
+ الخط -

لماذا المطلوب تدمير سورية؟ ألم يكفِ هذا الحد من التدمير الوحشي للبشر والحجر؟ وإلى متى سيبقى السوريون سجناء المأساة؟ أين المجتمع الدولي والضمير العالمي؟

هذه التساؤلات هي القاسم المشترك بين جميع السوريين، مهما كانت طوائفهم وطريقة تفكيرهم، ألاحظ مدى الانهيار النفسي للمواطن السوري، هذا الانهيار الذي يتخذ أشكالاً عديدة، وأظن أن على طلاب الطب النفسي الذين يعدّون أطروحات التخرج أن يحضروا إلى سورية ليجدوا مواد غنية للبحث في تنويعات القهر والإحباط واليأس والألم.

يكفي أن أكتب مجرد ملاحظات عمَّا أسمعه وأشهده في يوم واحد من الجحيم السوري، حتى ندرك أية هاوية رهيبة من الهدر الوجودي والإحباط وصل إليها السوريون.

كيف أصف هول الألم والقهر الراشح في صوت أمّ سورية تسألني، كما لو أنها تسأل القدر: لماذا المطلوب تدمير سورية؟ وما ذنب الشعب السوري؟ ثم تشكو لي همها بأن ابنها الذي كان متفوقاً في دراسته الجامعية، صار لا مبالياً ولا يطيق الدراسة، ولم يعد يتحدث معها باحترام كالسابق، بل يصرخ بوجهها بوقاحة كلما نبهته أنه يُهمل دراسته، قائلاً: ولماذا علي أن أتخرج من الجامعة؟ كي ألتحق بالجندية وأعود إليك بعد أسابيع جثة هامدة أو الشهيد البطل؟!
كلامها يحرض ذاكرتي لأستعيد صوت أم سورية متألمة تقول لي: محظوظة من تستلم جثة ابنها وتدفنها، تصوري أنني أعرف مئات الأمهات الثكالى لم يتسلمن جثث أبنائهن، ولا (نتفاً) منها، صار تسلم جثة شاب سوري قدره أن يُزج به في معارك لا يعرف ما دوره فيها ولم يختر الاستشهاد ولا الموت، صار تسلم جثته نوعاً من الترف والرفاهية والحظ.. أن تبقى في سورية محتفظاً بكيانك، بمادة جسدك، سواء كنت جثة مدفونة في قبر أو مدفونة في الحياة تحت كفن من القهر والألم والهدر الوجودي، هو الامتياز الوحيد للعيش فيها.

منظر مئات الشبان والرجال يدخنون "النرجيلة" (الشيشة) منذ ساعات الصباح الباكرة، وتغص بهم مقاهي اللاذقية، التي كتبت بعضها بالخط العريض: أرجيلة بخمسين ليرة سورية فقط (أي بأقل من نصف دولار)، منظر مُفزع كمنظر عشرات الأطفال السوريين الذين تتنافس الفضائيات في عرض صورهم متلاصقين فوق سرير يختنقون من غازات سامة اجتاحت رئاتهم، والأطراف المتصارعة تتبادل الاتهامات حول من استعمل الغاز السام، لأن هؤلاء الشبان خسروا كل ثقة بالحياة وبالإنسانية، ولم يبق لهم للتنفيس عن ضيقهم سوى تدخين "النرجيلة" وابتلاع المادة الوحيدة التي لم يرتفع سعرها في سورية وهي السُم.

لكن لم أتوقع أن يكون للفرح، أو ما يشبه الفرح، هذا الوقع الموجع، الفرح السوري يوجع أكثر من الألم، كما لو أن الفرح والألم في سورية وجهان لعملة واحدة، هي الإنسان المُعذب المثقل بالمأساة، ويبدو أن الإنسان يتوق للفرح وللتفريج عن روحه المُختنقة بوسائل عديدة. يبدو فعلا أن الإنسان محكوم بالأمل، على حد تعبير سعد الله ونّوس.

أن يتمكن مواطن سوري من الحصول على جواز سفر هو انتصار وإنجاز عظيم يجعله وأسرته يشعرون بأن معجزة قد تحققت، وبأنهم محظوظون بالحصول على جواز سفر غالباً ما يتطلب الحصول عليه انتظار أشهر.

أن يتمكن مواطن أو مواطنة سورية من عبور الحدود إلى لبنان هو انتصار عظيم أيضاً، أن تتجاوز حاجز الأمن العام السوري وفرائصك تتقصف رعباً من احتمال أن تُعتقل لألف سبب وسبب أو بدون سبب، لهو انتصار وعلامة طبية مؤكدة أن قلبك بحالة صحية ممتازة كونه تحمّل كل هذا الكم الكثيف من الذعر، وأن تجتاز الحاجز اللبناني ويُسمح لك بدخول لبنان، بعد انتظار طويل على الحدود، لهو انتصار مدوٍّ أيضاً.

أما الفرح الأعظم فهو حين يتمكن السوري - الذي أجبره عهر العالم على أن يتسول فيزا إلى أية دولة أوروبية أو عربية - حين يتمكن من الحصول على الفيزا، سواء كانت لزيارة قصيرة أو اللجوء، أي حظ كبير للسوري الذي تستقبله دوله أوروبية، يكون كمن وجد طوق نجاة من وطن تحول إلى مسرح للجنون. من يبالي كيف يشعر السوري وهو يتفرج على مواكب الشهداء تعبر المدن، وعلى رحلات داخلية للطائرة بين دمشق وجبلة محملة بجثث شبان سوريين ماتوا بالبساطة التي تموت بها الفراشات المُحترقة بالنور، أو بالبساطة التي تموت بها الحشرات بعد أن تُرش بالمبيد السام، من يبالي إن كان السوري يفقد صوابه وهو يشاهد كل يوم المذيعة مفرطة الأناقة تشرح له على خريطة المعارك الدائرة في سورية، وتثقفه بأن تذكر له بالتفصيل أسماء وشعارات الجماعات المتقاتلة، ولا أنسى سؤال طفل سوري لم يكمل السابعة من عمره حين سألني: طيب لماذا "داعش" و"جبهة النصرة" يقتلون بعضهم؟ يا للثقافة العالية التي تنتظر أطفال سورية!
لكن ثمة إصراراً على الفرح، منظر الأطفال يوم عيد الشعانين متأنقين وحاملين شمعة مزينة بالزهور والورود، يتأبطون يد أهل يدارون عنهم أحزانهم، ويذهبون إلى الكنيسة، منظر هؤلاء الاطفال – وأحب أن أذكر بكل اعتزاز أن بعض هؤلاء الأطفال غير مسيحيين لكن أراد أهلهم أن يهدوهم شيئاً من فرح فاشتروا لهم شمعه وزينوها بالورود – منظرهم يدعو إلى الفرح، إلى شعور خجول بالفرح.

موكب من الأطفال بثياب جميلة وأحذية جديدة يحملون شمعة ترمز لغصن الزيتون وللسلام، يمشون دون أن يعيروا اهتماماً للحواجز والجنود والبواريد، مُنتشين بفرحة عيد، وهم لم يتعلموا بعد أن يقولوا: عيد بأية حال عُدت يا عيد، هؤلاء الأطفال يعطوننا جرعة من الحماسة والأمل، إنهم مضاد اكتئاب حقيقي، ومن أجلهم لن يستسلم الكبار للإحباط واليأس، من أجل أطفال سورية سنرفض أن يكون قدرنا هو المأساة والتدمير والقتل.
الفرح السوري معجون بالألم، فرح يحرق كالألم تماماً، لا شيء أصعب من الإحساس بانعدام الأمان، الإحساس الذي يوحد السوريين.
أي حديث موجع بين صديقتين تقفان عند واجهة أحد المحالّ، ترغب إحداهما أن تشتري مزهرية جميله لتضع فيها زهوراً، لكن صديقتها تذكرها بأنهن يمكن أن ينزحن في أية لحظة عندما سيحين دور المدينة أو الشارع في معارك الوحشية والجنون، وتذكرها بالليلة – اللي ما فيها ضوء – حين نزح كل أرمن كسب إلى اللاذقية.

لم يعد الكثير من السوريين يشترون شيئاً، ليس بسبب الغلاء الفاحش للسلع، بل لقناعتهم أن تلك المشتريات ستكون عائقاً وعبئاً عليهم حين سيأتي دورهم في النزوح.
أن تتشكل قناعة لدى السوريين المتبقين على قيد الحياة، والذين لا يزالون يعيشون تحت سقف لم يُقصف بعد، بأن يروضوا جهازهم العصبي ليتقبل أن يكون النزوح هو الاحتمال الأكثر توقعاً لمستقبلهم إذا بقي لهذه الكلمة من معنى في سورية، فمستقبل سورية أشبه بشيك بلا رصيد، أن يتحول فرحهم إلى نوع من الزهد بالحياة والمقتنيات والمشتريات لأنها ستعيقهم حين تحل لحظة النزوح، وأن يشعروا بأن عليهم أن يكونوا كطيور السماء وسنابل القمح، سعداء سعادة الانعتاق، سعادة من غادر الأرض ولكنه بقي مُعلقاً بين الأرض والسماء.

المساهمون