وطن اللامعقول

وطن اللامعقول

12 ابريل 2014
+ الخط -

 

لا أعرف لماذا لم يدشن أطباء سوريا موقعاً لهم على الإنترنت، ليتشاركوا في رفض وضعهم المُهين والاستخفاف التام بحقوقهم، ومواجهة الظلم اللامعقول من قبل نقابة الأطباء سواء كانت النقابة المركزية في دمشق أو فروع النقابة في المحافظات.

 ورغم أن الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي زاخرة بكتابات الأطباء السوريين وشكاواهم من فحش الظلم ولا منطقيته، فإنهم لم يشكلوا حتى اللحظة ترسانة (بما أن هذه هي الكلمة الأكثر استعمالاً وتطبيقاً في سوريا، من ترسانة الأسلحة إلى ترسانة الكيماوي، إلى ترسانة قوانين تبتكرها بعض النقابات وتكون سُميتها كالكيماوي والعنقودي والبراميل المتفجرة). أو تجمعا" يعرض مدى الظلم والانتهاك في حقوقهم.

ولتوضيح أزمة الأطباء في سوريا فإنني سأقسمهم إلى ثلاثة أقسام:

قسم كبير من الأطباء السوريين اضطروا للنزوح خارج سوريا، لاسيما أطباء من حلب وحمص والقصير وغيرها من المناطق شديدة الالتهاب، هؤلاء خسر جزء كبير منهم مصدر دخله، كأن تهدمت عيادته، أو سُرقت، أو سكن فيها غرباء ومسلحون الله أعلم من هم. وأعرف الكثر من هؤلاء الأطباء الزملاء إذ التقيتهم في بيروت حيث استأجروا بيوتاً ولم يُوفَقوا بأي عمل ، لأن الطبيب السوري لا يمكنه العمل في لبنان إن لم يسجل اسمه في نقابة الأطباء التي يحتاج التسجيل فيها إلى ثروة باهظة.

عاش إذاً الأطباء السوريون النازحون خارج سوريا على ما ادخروه من عملهم الطبي خلال سنوات. وبعضهم نفد المبلغ الذي ادَخره فصار مواظباً على أبواب السفارات عسى أن يُوفق في هجرة إلى دوله أوروبية ، ومتعرضا" لأشكال وألوان من عمليات النصب التي تتفنن بها شريحة متنامية من النصابين .

فكيف كان موقف نقابة الأطباء السوريين منهم؟ بكل بساطة فصلتهم من النقابة!! وحرمتهم من حقوقهم كتعويض سنوات الخدمة والراتب التقاعدي وغيرها من الإمتيازات ؟ وأعرف أحد هؤلاء الأطباء وهو زميل لي إضطر أن يترك حلب لأن صاروخاً سقط في عيادته، وفلعها نصفين قبل أن تحترق حارقة معها أحلامه وقلبه ، إضافة إلى أن سكنه كان في منطقة ممتلئة بالقناصة والصواريخ العابرة للأحياء ، صديقي هذا الذي هج إلى بيروت فصلته نقابة الأطباء وطردته بعد أقل من شهر من نزوحه .

وحين حاول الاتصال بالمسؤولين ليخبرهم بظروفه لم يسمعوا له، ولم يقبلوا أن يقدم أحد زملائه إجازة أو استيداعاً عسى جحيم حلب يهدأ ، قالوا له : تعال أنت بنفسك قدِم الإجازة، وهم يعلمون أن الخطف كان في أوجه على الطرقات وحمم السماء كانت في أوجها، والجثث تنهشها الكلاب. طُرد زميلي بكل بساطة من نقابه أطباء حلب خاسراً كل حقوقه بعدما خدم أكثر من عشرين سنه كطبيب إختصاصي.

المنطق البسيط الطبيعي يقول إن من واجب النقابة أن تساعد المُنتسبين إليها في ظروف الشدة كالمرض والظروف غير الطبيعية كالنزوح والتهديد بالموت والبيوت والأرزاق مُدمرة. إذا" نسبه كبيرة من أطباء سوريا اللذين إضطروا للنزوح خارج الوطن عُوقبوا بفصلهم من النقابة وخسروا كل حقوقهم.

القسم الثاني من أطباء سوريا: هؤلاء نزحوا من مدنهم المنكوبه إلى الساحل الآمن نسبياً، وبعضهم نقل وظيفته إلى إحدى مشافي اللاذقية، ومن كان لديه رأس مال معقول تمكن من فتح عيادة خاصة، وهؤلاء عاشوا – ولا يزالون – أقسى أنواع التمزق والإحباط، وقد شهدوا كيف ضاع جهد سنوات من عمرهم بقذيفة صاروخ أو دبابة أو اشتباكات مسلحة في مناطقهم، وأكثر ما يعاني أطفالهم الذين شهدوا جرائم مروعه لم يستوعبوها، واضطروا إلى أن يتركوا منزلهم ومدرستهم ليجدوا أنفسهم غرباء ومضطرين لقبول ذلك الانقلاب في حياتهم، هؤلاء الأطباء الذين نزحوا داخل الوطن تتطلع عيونهم للهجرة إما إلى بلد عربي أو أوروبي، والبلدان العربية معظمها تُعاقب الشعب السوري ولا تعطيه تأشيرة، فيز عمل، بينما تعطي تأشيرات عمل للصوص السوريين الذين نهبوا المال العام، وجمعوا مليارات الدولارات وشاركوا إماراتيين وسعوديين في استثمارات متنوعة. هؤلاء تأملوا نوعاً من دعم مالي من النقابة لكن خابت آمالهم كليا".

الفئة الثالثة من الأطباء – وأنا منهم – بقينا في أقفاصنا، في وظائفنا، ولم نغادر لأن الوضع في الساحل السوري آمن نسبيا" أمان دجاجات في قفص" ، ولكن حين أراد البعض منا أن يتقاعد، حسب قانون النقابة الصريح والمُصدق من قبل وزارة الصحة ومجلس الوزراء، حين أراد العديد من أطباء الساحل والداخل المقيمين داخل سوريا أن يتقاعدوا ويحصلوا على تعويض نهاية الخدمة الذي يقدر بمليون ليرة (مع العلم أن الليرة السوريه فقدت أكثر من ثلثي قيمتها) وأن يحصلوا أيضاً على نصف مبلغ تعويض الوفاة المقدر بـ 400 ألف ليرة سورية ، كان الجواب بكل بساطة وإستخاف : لا مال فالوطن بأزمة.

صرخ العيد من الأطباء: ونحن في بأزمة ونريد حقوقنا، ونحن لم نقصر في دفع الرسوم المستحقة علينا لصندوق نقابة الأطباء طوال عقود وفي الوقت الذي كانت فيه الليرة تفلح وتزرع (كان الدولار وقتها 11 ليرة سورية) بل إن أحد زملائي الأطباء دخل بنوبه هستيرية حقيقية، وهو يصرخ بوجه نقيب الأطباء: أصلا" هذه المليون حقي (مشددا" على حرف القاف حتى خشيت أن تتمزق أوردة عنقه) يجب أن تعطونا إياها أربعة ملايين بسبب انهيار الليرة. وماذا كان الجواب؟.. بكل بساطة ولا مسؤولية أصدرت نقابة الأطباء المركزية في دمشق قرارا" لا يستند لا إلى وزير الصحة ولا إلى مجلس الوزراء بأن رفعت سقف التقاعد من 60سنه إلى 70 سنه أي عشرة سنين دفعة واحدة في بلد يُسجل عداد الموت اليومي فيه 250 قتيلاً. وبذلك تكون النقابة المركزية قد ضمنت أن تُخرس الأطباء المطالبين بتعويضاتهم، وخصوصاً تعويض نهاية الخدمة عشر سنوات ، وربما تأمل أن يموت هؤلاء الأطباء خلال تلك السنوات وما أكثر فنون الموت في سوريا، وعلى الأغلب يموتون فقعا" وغيظا" . ولكن شكاوى الكثير من الزملاء الطباء المنكوبين بنقابة كهذه، شعارها: الوطن في أزمه لذا لن تحصلوا على قرش واحد، أدى إلى تراجع النقابة المركزيه في دمشق عن هذا القرار المهزلة ، ولكن لم يتغير شيئ .

فالوطن بأزمة عبارة ترجمتها الوحيدة في الواقع السوري الكارثي : أيها المواطن لن تحصل شيئا" من حقوقك لأن الوطن بأزمة . حتى أن نقيب الأطباء قال لي : من أين سنحضر المال ، وعلينا دعم النقابات المنكوبة كنقابة درعا مثلا" . يا سبحان الله على البلاغه وعلى رقة القلب التي دفعتني للإنطواء من الضحك بدل الإنفجار بالبكاء ، يا للرقة وأنت تفكر بدرعا يا نقيب الأطباء .

لا أبالغ إذا قلت إن عدم حصول المواطن على حقوقه خاصة في هذا الوضع الكارثي الذي لم يستثن أحدا" جريمة ، ولأنني طبيبة فقد روَعني مدى الظلم الذي يتعرض له الأطباء والنقابه لديها شماعة وحيدة تعلق عليها تقصيرها وظلمها للأطباء وهي عبارة الوطن بأزمة . والمواطن بأكبر أزمة أيضا".

كيف تعيش في وطن لا تشعر أن لك حقوقا" عليه ، أم أن متوسط عمر الإنسان في سوريا يجب أن يكون 500 عام ليحصل على حقوقه ،وما يزيد الطين بله وما يزيدني قرفا" ذلك المنطق المُنافق المسموم الذي يتحدث به البعض والمسؤولين إذ يلومون كل من ترك الوطن ، كما لو أنه ترك وطنه للنزهة ولم يتركه بسبب حمم السماء والأرض ، بل يتهمون من تركوا بالخيانه لأن الإنسان يجب أن يبقى في وطنه مهما تعرض لظروف حتى لو طار سقف بيته بصاروخ أو مات أولاده تحت الأنقاض ، لأن الوطن ( حسب قولهم المقرف ) ليس فندقا" للآستراحة !بل على كل مواطن أن يتشبث بوطنه . يا سلام على البلاغة ، ولكن ليسألوا السؤال بصيغته العكسية : ماذا لو أن وطنك لم يتشبث بك وأهانك ووجدت نفسك تفر من الذعر والخوف وقد خسرت مصدر عيشك وبيتك ولم يبقى ل كالا أن ترجو قوى الكون والله أن يساعدوك لتحمي أطفالك من الموت في بلد الموت .

لا أعرف حال بقية النقابات لكنني أجد نفسي –كطبيبة – مدفوعة للإنضمام إلى آلاف الطباء السوريين الذين تعرضوا لأقسى القهر والخسائر ولم تدعمهم النقابة بشيئ بل عاقبتهم بأن فصلتهم منها وجردتهم من كل حقوقهم وتعويضاتهم المالية ، تحت يافطة الوطن بأزمة .

ولا يسعني الآ أن أتساءل: هل كل الوطن بأزمة حقا" ! وحين أمشي في شوارع اللاذقية وأتوقف مذهولة أمام حفل ضخم لإفتتاح معرض سيارات يحتل شارعين رئيسسن في المدينه، وأتأمل باقات الزهور العملاقة ، الزهور نفسها التي توضع على المقابر في سوريا ، وأتأمل السيارات الفخمة تلتمع تحت أضواء النيون والإنارة القوية بينما حلب تغطس في الظلام لأيام !ثم أتابع السير لأرى جنونا" في البناء ، عمارات من عشرين طابقا" مُلبسة بأفخم أنواع الرخام وسوقا" يضم مئات المكاتب على الهيكل في شارع رئيسي في اللاذقية بينما نقابة الأطباء تقول : لن ندفع لكو قرشا" أيها الأطباء فالوطن بأزمة ؟ !هل كل الوطن بأزمة حقا" . من يملك عينان للنظر فلينظر ومن يملك أذنان للسمع فليسمع ومن تبقت  في رأسه بقايا عقل فليتأمل وطن اللامعقول . سوريا .

.