​حرب اللقاحات... أنا ومن بعدي الطوفان

​حرب اللقاحات... أنا ومن بعدي الطوفان

31 يناير 2021
آني لينش كانت أول من يتلقى اللقاح في جمهورية أيرلندا (مارك أو سوليفان/ فرانس برس)
+ الخط -

تواصلت، طوال الأسبوع الماضي، الضغوط الأوروبية على شركة "أسترازينيكا" لتسليم جرعات اللقاح إلى دول الاتحاد وبريطانيا. وقررت بروكسل التضييق على الشركات المنتجة للقاحات لتعقيد تصديرها إلى خارج دول الاتحاد

في غضون أسابيع قليلة، تحولت شركة "أسترازينيكا" البريطانية - السويدية من ملاك إلى شيطان بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، بعدما حظيت بكثير من التقدير لحظة الإعلان عن لقاحها ضد فيروس كورونا الجديد. في الأيام الأخيرة، بدأت التصريحات حول عدم فعالية اللقاح لكبار السنّ، ومنها تصريح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتشكيك في الاختبارات التي أجرتها الشركة بالتعاون مع جامعة "أوكسفورد" البريطانية. ما الذي دفع إلى هذا التحول؟ هي النزعة القومية والشعبوية التي ظهرت في أعقاب انتشار فيروس كورونا، باعتباره وباء عالمياً يهدد الاقتصاد، لا سيما في الدول الغنية. فالجميع بات يريد الأولوية له وحده في أدوات الوقاية والعلاج والعقاقير وكذلك اللقاحات، في مواجهة الوباء وقيوده، وهو ما سمته الأمم المتحدة كارثة أخلاقية تتمثل في خروج أسوأ ما في البشر خلال أزمات كالجوائح: أنا ومن بعدي الطوفان. وأبرز مثال على تلك النزعة الاستحواذية، الدنمارك، التي طلبت لقاحات تكفي لأربعة أضعاف سكانها، فقد ذكر الموقع الإلكتروني لوكالة الأدوية الدنماركية، أنّ السلطات طلبت 41.6 مليون جرعة من اللقاح لمواجهة الفيروس لسكانها البالغ عددهم أقل من 6 ملايين.

قبل الحديث عن استحواذ فئة من الدول على اللقاحات وحرمان الدول الفقيرة منها، وهو التحذير المتواصل لمنظمة الصحة العالمية، يبدو أنّ التنافس بين دول النصف الشمالي نفسها، ينتهك قواعد واتفاقيات وأعرافاً تاريخية وأخلاقية. قفزت مسألة "بريكست" إلى واجهة المعركة بين الاتحاد الأوروبي و"أسترازينيكا" بمحاولة منع وصول لقاحات أخرى إلى بريطانيا، بما أن أكبر مصنعين لأسترازينيكا يقعان في بلجيكا. فطوال الأيام الماضية، كثرت الانتقادات الأوروبية، سواء من المفوضية أو من قادة الدول ومسؤوليها، لتأخر الشركة في تسليم جرعاتها لدول الاتحاد. كلّ ذلك كان قبل ترخيص اللقاح أوروبياً، أمس الأول الجمعة، فاللقاح كسب كثيراً من المصداقية والثقة والإشادة الأوروبية خصوصاً، بعد الإعلان عنه أواخر العام الماضي، إذ رأى الخبراء في إطلاقه نقطة تحوّل في مكافحة الوباء، خصوصاً لرخص ثمنه (بين 2 دولار و3 دولارات) ولسهولة نقله وشروط تخزينه (في درجات حرارة طبيعية تتراوح بين 2 و8 درجات) مقارنة بلقاح "فايزر/ بيونتيك" (سعره حوالي 25 دولاراً ويحتاج لحرارة ناقص 70). وكانت هناك إشادات إضافية بالشركة المصنّعة، لتعهّدها بتوفير اللقاح على أساس غير ربحي للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط.

الصورة
تطعيم في أيرلندا الشمالية- Getty

وبينما منحت هيئة الأدوية الأوروبية تصريحها باستخدام اللقاح للأشخاص البالغين 18 عاماً فأكثر، على الرغم من مخاوف من عدم وجود بيانات كافية تثبت نجاحه لدى كبار السن (فوق الـ65)، ليصبح لقاح "أسترازينيكا" بذلك ثالث لقاح مضاد لكورونا توافق عليه الهيئة الأوروبية، بعد لقاحي "فايزر/ بيونتيك" و"موديرنا"، كان الاتحاد الأوروبي يتراجع عن تهديده بتقييد صادرات اللقاحات المضادة للفيروس إلى أيرلندا الشمالية، في إطار خلافه المتصاعد مع بريطانيا.
شركة "أسترازينيكا" تقول إنها لا تمالئ طرفاً على حساب آخر، فهي في النهاية شركة ذات أهداف ربحية ومن واجبها الالتزام بعقودها، وهي تتلقى الضغوط من الجهتين الأوروبية والبريطانية في الوقت نفسه لزيادة توزيع الجرعات. وكانت قد ردّت تأخرها في تسليم الجرعات إلى مشاكل في الإنتاج. وقالت الشركة البريطانية - السويدية إنّها قادرة على تسليم جزء صغير من جرعات اللقاحات التي وعدت بها للاتحاد الأوروبي وبريطانيا، لكنّ الجانبين يطالبان بالإيفاء بالوعود. مع هذه المطالبات جاء تهديد الاتحاد الأوروبي بتقييد صادرات اللقاحات التي تُصنع في بلجيكا (تحديداً فايزر) إلى أيرلندا الشمالية عبر جمهورية أيرلندا (العضو في الاتحاد الأوروبي) بتعليق بند من اتفاق "بريكست" مع بريطانيا، يسمح بالتدفق الحر للسلع عبر الحدود الأيرلندية، وذلك خوفاً من وصول الجرعات تلك التي لها طابع إنساني، وهدفها محاصرة الوباء الذي يهدد البشرية، إلى الأراضي البريطانية ككلّ، مع العلم أنّ اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تنصّ على تصدير البضائع من دول الاتحاد الأوروبي إلى أيرلندا الشمالية من دون تدقيق.

في كلّ الأحوال، تراجع الاتحاد الأوروبي عن موقفه بعدما عبّر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عن "قلقه البالغ" من الخطوة. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في بيان، تأخر صدوره، مساء أمس الأول الجمعة، إنّ المفوضية "ستعمل على ضمان ألا يتأثر بروتوكول أيرلندا/أيرلندا الشمالية" بالأزمات الحالية. وجاء ذلك بعدما نشر الاتحاد الأوروبي نسخة منقحة لعقده مع "أسترازينيكا" بموازاة الإعلان عن آلية من شأنها الحؤول دون تصدير لقاحات مصنعة على أراضيه إلا بموافقة مسبقة من قيادة الاتحاد.
الأسبوع الماضي شهد كثيراً من الضغط على "أسترازينيكا"، من أجل توريد مزيد من جرعات اللقاح إلى دوله السبع والعشرين الأعضاء، وإلزام الشركة بوعودها المبدئية. من ذلك اتصال فون دير لاين هاتفياً بالرئيس التنفيذي لشركة "أسترازينيكا" باسكال سوريوت. ومما جاء في الاتصال أنّ فون دير لاين أوضحت أنّها تتوقع من "أسترازينيكا" الوفاء بالتزاماتها التعاقدية المتوقعة عند إبرام اتفاقية الشراء المسبق، كما ذكّرت سوريوت بأنّ الاتحاد الأوروبي استثمر مبالغ كبيرة في الشركة مقدماً، لضمان زيادة الإنتاج حتى قبل أن يصدر ترخيص السوق المشروط من قبل وكالة الأدوية الأوروبية.

الصورة

همّ الاتحاد الأوروبي الرئيسي هو تحقيق الأهداف المبكرة في خطته الرامية إلى تلقيح سبعين في المائة من سكان دوله البالغين بحلول أواخر الصيف المقبل، وهي أهداف تبدو أكثر صعوبة الآن. لذلك، أبرم الاتحاد ست اتفاقيات لتوفير أكثر من ملياري جرعة لقاح، غير أنّ الموافقات على الاستخدام لم تصدر سوى للقاحات "موديرنا" و"فايزر/ بيونتيك" وأخيراً "أسترازينيكا" حتى الآن. في المقابل، دافع سوريوت عن خطة توزيع لقاح شركته في الاتحاد الأوروبي، وحمّل الاتحاد نفسه المسؤولية لتأخير توقيع اتفاق بينهما. وقال إنّ فريقه يعمل "على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع لمعالجة المشاكل العديدة المتعلقة بإنتاج اللقاح". وأضاف أنّ الإنتاج "تأخر بشكل أساسي شهرين عن الموعد الذي كنا نريده" موضحاً أنّ قرار الاتحاد الأوروبي المتأخر بتوقيع العقود جعل الوقت ضيقاً لتحديد مناطق الخلل في الإمدادات. واستشهد سوريوت، بالعقد الذي وقّعه مع بريطانيا قبل ثلاثة أشهر من تحرك الاتحاد الأوروبي، وهو ما يتيح وقتاً أكبر لحلّ الثغرات التي قد تطرأ أثناء عمليات توزيع اللقاح في بريطانيا.
بينما يختلط العامل الصحي بالسياسة والاقتصاد في مسألة اللقاحات بحسب خطط الاتحاد الأوروبي، فإنّ من المتوقع الآن أن تزيد شركة "أسترازينيكا" من إمداداتها، بحسب قدراتها الإنتاجية، وبحسب الوقت الذي وفره لها الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي الذي يواصل الضغط في اتجاه زيادة الإمدادات إليه، حتى إن قطعت إمداداتها عن دول أخرى. لكنّ الاتحاد ينظر إلى ما هو أبعد في التغاضي عن صورة العمل الإنساني الدولي التي يدّعيها. ذلك ما كشفه الإعلان عن منع الشركات المنتجة للقاحات من تصديرها إلى خارج دوله من دون ترخيص مسبق. فمع الاستثناء الوحيد لأيرلندا الشمالية التي كانت ضمن هذا المنع أيضاً قبل التراجع. وقال فلاديس دومبروفسكيس، نائب رئيسي المفوضية الأوروبية، إنّ الغاية من قرار منع التصدير تأمين العدد الكافي من اللقاحات لمواطني دول الاتحاد الأوروبي.

وسط هذه الأجواء، برز "تمرّد" لافت على الإجماع الأوروبي والخطة الشاملة التي يعتمدها، وذلك من خلال المجر، وهي من أواخر الدول التي انضمت إلى الاتحاد (2004). المجر باتت أول بلد من الاتحاد الأوروبي يوافق على تطعيم شعبه باللقاح الروسي "سبوتنيك في" والصيني "سينوفارم" وفق ما أفادت كبيرة مسؤولي الصحة في البلاد، سيسيليا مولر. وربما تبدو الخطوة المجرية غير ذات تأثير، فالدولة التي يبلغ عدد سكانها نحو 10 ملايين نسمة، يحكمها يمين قومي شعبوي (فيكتور أوربان) ولم تكن يوماً مؤثرة في سياسات الاتحاد الأوروبي، بل ينظر إليها بقية الأعضاء بعد أكثر من 16 عاماً من انضمامها باعتبارها من الدول التي لا تستطيع الاتكال على نفسها وتنتظر دوماً مساعدات الدول الغنية في الاتحاد. لكن، مع ربط الخطوة المجرية بتعثر الخطط الأوروبية الخاصة باللقاح، يمكن أن يثير ذلك مخاوف اتخاذ دول أخرى من الاتحاد مساراً مماثلاً لبودابست.

المساهمون