هل توقّف السوريون عن حبّ فلسطين؟

03 يونيو 2025
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يعاني السوريون من إرهاق عاطفي بسبب المعاناة المستمرة، مما أدى إلى نشوء "اقتصاد عاطفي" جديد يفرض ترتيب الأولويات العاطفية وتوزيع التضامن بشكل مدروس، خاصة تجاه القضية الفلسطينية.
- في ظل الحرب على غزة، يتجلى هذا الاقتصاد العاطفي في قرارات صعبة مثل تلك التي اتخذها الطبيب محمد مصطفى، مما يعكس تشخيصاً مأساوياً للقضية الفلسطينية كقضية خاسرة.
- رغم التحديات، تظل فلسطين جزءاً من الوعي الجمعي للسوريين، لكن الزلزال السوري الداخلي أثر على هذا الموقع، مما يعكس تعقيداً وتردداً في التعبير عن التضامن.

لا يمكن النظر إلى ما يجري في غزة اليوم بلا انكسار مزدوج: انكسار في تلقّي الصور والأخبار، وآخر في الاستجابة لها. نعلم تماماً أن لا أحد فينا يتفرّج ببرود، لكنّ كثيرين لا يعرفون كيف يحبّون فلسطين كما اعتادوا أن يفعلوا. ولعل السوريين تحديداً، بعد سقوط النظام، يجدون أنفسهم في أكثر لحظاتهم التباساً تجاه ذلك الحبّ القديم غير المبروء منه، فتربكهم العلاقة، لا نكراناً ولا نسياناً، بل إنهاكاً وإحباطاً ناتجَين عن طول وتجدّد المعاناة، وحتماً كثافة الألم.
ثمّة ما يشبه "اقتصاداً عاطفياً" جديداً نشأ لدى السوريين بعد عقد ونصف العقد من القتل والتشريد، على نحوٍ يُذكّر بالتسمية التي أطلقتاها الباحثتان سارة أحمد في "السياسات الثقافية للعاطفة"، وجوديث بتلر حول إدارة الألم في "الحياة الهشة: قوى الحداد والعنف". فالسوريُّ، الآن، لا يوزّع تضامنه كيفما اتفق، صار يُرتّب ألمه، يؤجّل وجعاً ليواجه آخر، ويختار مَن يستحق دموعه، ومَن لا يملك ترف الحزن عليه.
من مرويات الحرب على غزّة، اختار الطبيب محمد مصطفى عدم استهلاك "الحصّة الشحيحة" التي يملكها من مخدّر الألم على الأطفال الذين سيموتون لا محالة، واستخدمه فقط مع من يملكون فرصة للنجاة. هذا الاختيار القاتل، هذا المنطق "البراغماتي" كما وصفه، يبدو للوهلة الأولى لا أخلاقياً، لكنّه قد يشرح كيف ينظر بعضهم اليوم إلى فلسطين. ليس كرهاً، بل مجرد تشخيص مأساوي: لـ"قضية خاسرة"، و"لا أمل فيها"، مقابل بارقة احتمال ضئيل بالنجاة من كارثة سورية لم تنتهِ بعد.
هناك حقائق لا تحتاج إثباتاً، وهذه واحدة منها: لفلسطين موقع مركزي في التكوين العاطفي والسياسي للسوريين، لم تكن القضية مجرّد "قضية"، بل أحد مرتكزات الوعي الجمعي للسوريين. اهتزّ هذا الموقع خلال السنوات الماضية نتيجة الزلزال السوري الداخلي: جيل كامل خرج من المنافي والسجون والمخيّمات وهو يسأل، بتعب لا بعتب: أين كان العالم حين كنّا نحن نُباد؟
والسؤال خطير بحدّ ذاته، كونه تحوّل أخيراً معياراً للعدالة. سأله السوريون بتعسّف وتعصّب وقسوة لبعضهم بعضاً: "أين كنتم منذ 14 عاماً؟"، ويسأله السوريون الآن لكلّ أهل الأرض، وللفلسطينيين أيضاً. السؤال خطير بحدّ ذاته، إذ لا تجوز المقارنة بين الضحايا كما لو أنهم وُضعوا بمفاضلة في ميزان أخلاقي.
لكنّ العبث الذي نعيشه اليوم أوجد منطقاً هشّاً بالتأكيد، لكنّه منطق المتألّم الذي لم يعد يملك جسداً فتيّاً قادراً على تلقّي حطام الجسد الآخر.
السوريُّ كالفلسطينيّ، وجدَ نفسَه بلا دولة، بلا سقف رمزي، وبلا سند عالمي. كلاهُما اختُبر بأعلى درجات الألم، وكلاهما عَلِق على هامش الأولويات الدولية. ما يتغيّر اليوم ليس الحبّ النهائي والقطعي لفلسطين، بل قدرة السوري المنهك على الاستمرار في استيعابها في وجدانه، دون أن يتهاوى.
من الظلم أن يُتّهم السوريون اليوم بالجفاء. إنهم ليسوا أقلّ وفاءً، لكنهم أكثر إنهاكاً. الحبّ لم يمت، قد يظهر فجأة في صورة طفل غزّي يشبه ذاك الذي دُفن في حماة، وفي دمعة عصيّة حين تُذكر "العودة" ومفاتيح البيوت. قد يبدو اليوم أن الحبّ السوري لفلسطين خافت، ربما متردّد، وهذا التردّد لا يعبّر عن نهاية القصّة، بل عن لحظة عجزٍ كبرى، لحظة يتعايش فيها السوري مع فكرة أن العدل مفهوم تائه في هذا الكون الدنيء، وأن مأساته الخاصة أضاعت اتجاهاته بحيث ضلّت بوصلته الأخلاقية، ومع هذا ظلّ يتلمّس طريقه رغم الغبار، موقناً أن استمرار السؤال: "هل لا زلنا نحبّ فلسطين؟"، هو دليلٌ أننا لم نخرج منها، ولا خرجت منّا.

المساهمون