هروب اللبنانيين... الدولار لا يشتري الأمان

هروب اللبنانيين... الدولار لا يشتري الأمان

21 ديسمبر 2021
أتت بكلبها لحمايتها أمام المصرف المحصّن (باتريك باز/ فرانس برس)
+ الخط -

تلتفت الشابة اللبنانية العشرينية رانيا يميناً وشمالاً كلما أرادت سحب راتبها الشهري من الصراف الآلي لبنك. تتملكها حالة رعب تجعلها تستعجل تدوين كلمة السر والحصول على المبلغ المالي بسرعة قبل أن يراها أحد أو يتعقبها شخص لسرقتها، خصوصاً أنّها تقبض راتبها بعملة الدولار. وهي تشك في كل من حولها وتراهم جميعاً أفراد عصابة.
اعتادت رانيا أن تختار موقع "صراف آلي" مكتظاً بالسكان والحركة، لاعتقادها أنه أكثر أماناً، مع تفضيلها التوقيت الصباحي لإتمام عملية سحب الراتب، لكن هذا التكتيك لم يعد صالحاً، باعتبار أن جرائم سرقة وسطو مسلح باتت تحصل في كل مكان، وبين زحمة الناس، وتطاول مؤسسات ومصارف مجهّزة ومحصَّنة صباحاً وظهراً ومساء، ما زاد من قلق رانيا وجعلها تخشى حتى المرور أمام مصرف.
قصة رانيا ليست بعيدة عن حال الخوف المستمرّ لدى روبير الذي لم يعد يفكّر إلا في أمواله الموجودة في المنزل. يخاف عليها من حريق قد يندلع داخله، أو من التلف بفعل مرور الزمن أو من التعرض لسرقة، حتى بات يخشى الخروج من المنزل، ويفضل حراسة هذه الأموال ليلاً، ولا سيما أنه يسكن في مبنى مكشوف لا رجال أمن فيه، ولا كاميرات وأجهزة إنذار تلجم عمليات السرقة.

وما زاد الطين بلّة بالنسبة إلى روبير، ظهور أزمة "الدولار القديم"، ورفض عدد كبير من المؤسسات المحلية التعامل به، ما جعله أكثر قلقاً على أمواله وجنى عمره، ومهتماً فقط بطريقة التخلص من الدولار القديم الذي كان قد سحبه من المصرف في بداية أزمة عام 2019، وذلك عبر بيعه لصراف غير شرعي أو تبديله، ولو خسر بعض قيمته. ويخبر "العربي الجديد" أن حياته لم تعد مستقرة منذ عام 2019، "فالهمّ يرافقني، كذلك القلق والخوف من الأيام المقبلة، وخسارة أموالي بعدما بتّ أتجوّل وفي جيبي ملايين الليرات بسبب الغلاء المستشري، وأسأل نفسي عمّا إن كان يتعقبني أحد ليسرقني، أو ليضربني من الخلف ويسرق سيارتي". كل هذه المشاعر تعيش مع روبير في بلد يعتبره غير مستقر أمنياً واجتماعياً واقتصادياً ونقدياً.

الصورة
يفكر في طريقة صرف "الدولار القديم" (جوزف عيد/ فرانس برس)
يفكر في طريقة صرف "الدولار القديم" (جوزف عيد/ فرانس برس)

"نعمة" واكتئاب
من جهتها، باتت سابين التي "تنعم" بعمل محترم ومرتب عالٍ تعاني من اكتئاب شديد يؤثر بعملها، إضافة إلى قلق متواصل، وكره كبير لانعدام الأمان في لبنان، وعدم قدرتها على الوصول إلى أبسط حقوق العيش من بنزين وكهرباء وطبابة. كذلك تخشى حصول أي حدث أمني، خصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020. ودفعها ذلك إلى اللجوء إلى علاج نفسي وتناول مهدئات والعيش في عزلة تامة، رغم علمها بأن حياتها أفضل بكثير من غيرها، إذ رأت أن عمرها يضيع في وطن بلا مستقبل، وقد تقتل فيه في أية لحظة. لذلك، اختارت الرحيل في أول فرصة تتاح لها للمغادرة إلى الخارج.
وفيما أعلنت وزارة الداخلية تكثيف الإجراءات الأمنية للتعامل مع ارتفاع جرائم السرقة، يجمع مراقبون على أن "هذه التدابير غير كافية، لأن ما وصل إليه المواطنون يدمر صحتهم النفسية بالكامل".

واقع ملموس وليس تخيلات
تقول المعالجة النفسية شارلوت خليل لـ"العربي الجديد": "ما يحصل ناتج من الخوف الشديد من انعدام الأمان والرؤية المستقبلية، وتدهور الأوضاع المعيشية وسط غياب الحلول أو حتى الضوء في نهاية النفق. والانهيار الحاصل يضع عبئاً كبيراً على الصحة النفسية، ويزيد الاضطرابات، وصولاً إلى زيادة خطر الانتحار، علماً أن الأزمات ترفع أيضاً مستويات الجريمة".

الصورة
اختاروا الرحيل للخروج من النفق (أنور عمرو/ فرانس برس)
اختاروا الرحيل للخروج من النفق (أنور عمرو/ فرانس برس)

وتشدد على أن "الإحساس بالأمان من الحاجات الأساسية التي تؤمن الاستقرار للإنسان، وفقدانه يوجد نقصاً قد يتطور إلى اضطرابات نفسية. كل إنسان يريد أن يحافظ على حياته، وعندما يشعر بتهديد يقوم برد فعل قد يكون عنيفاً، وهو ما نراه اليوم من خلال القلق المتواصل والتوتر والانفعالات، التي تشمل كل الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية. وحتى من يملك المال لا يشعر بالأمان في ظل أزمة الكهرباء والدواء والاستشفاء وانعدام الحياة الصحية، والحرمان من أبسط الحقوق الأساسية، فالنظام الصحي الاجتماعي التربوي الاقتصادي كله مفقود، ولا ثقة به نتيجة واقع ملموس وليست تخيلات شخصية".
وتلفت خليل إلى أن "المواطن يرى في وعيه ولا وعيه أن لا أحد يحميه، ما يضطره إلى الاعتماد على نفسه، لذا ترتفع معدلات الجرائم، ولا سيما السرقة في ظل غياب القانون والمحاسبة، والانفلات الأمني المرتبط حتماً بزيادة الفقر والبطالة والجوع. وفي غريزته للبقاء، يفعل الإنسان كل شيء لتأمين حياته وحياة من حوله، علماً أن معدلات الجريمة ترتفع دائماً في البلدان والمجتمعات التي تعاني من أزمات".
لكن خليل لا تعتبر أن "مغادرة البلاد تمثل حلاً، بل هي جزء من الهروب، والمسؤولون أوصلوا الناس إلى درجة اليأس ليتركوا كل شيء وراءهم، ويسقطوا رغبتهم في المحاسبة والمساءلة. لكن أحداً لا يملك حق دفع الناس إلى الرحيل، رغم أن المسؤولين طردوا المواطنين من بلدهم بمجرد أن أقفلوا كل الأبواب في وجههم، والأهم بالنسبة إلى هؤلاء المسؤولين أنهم قضوا على إحساس الناس بالأمان، وأبقوهم في حالة إحباط وخوف مستمر وشعور بالعجز، وهذا أسلوب زرع اليأس الأكثر شراسة الذي قد يتعرّض له الناس بمختلف فئاتهم العمرية وطبقاتهم الاجتماعية".

انتحار كلّ يومين
وكان البرنامج الوطني للصحة النفسية ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة "إمبرايس" قد نظمت بدعم من الوكالة الفرنسية للتنمية والمدرسة العليا للأعمال مؤتمراً في 10 ديسمبر/ كانون الأول الماضي بعنوان "كسر الصمت حول الانتحار" الذي تشير تقارير إلى أنه يودي بحياة لبناني واحد كل 2.1 يومين، علماً أن هناك نقصاً في الإبلاغ عن حالات الانتحار.
وأكد المؤتمر أهمية الخط الساخن للدعم النفسي والوقاية من الانتحار الذي تلقى أكثر من 7959 مكالمة حتى نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الحالي، في مقابل 6132 مكالمة عام 2020 و2239 مكالمة عام 2019 و1590 مكالمة عام 2018. وأوضح أن أغلب المكالمات جاء من أشخاص بلا عمل، الذين بلغت نسبتهم 42 في المائة، في مقابل 25 في المائة عام 2018 . وراوحت أعمار 61 في المائة من المتصلين بين 18 و34 عاماً، وأعمار 20 في المائة بين 35 و49 عاماً، و9 في المائة بين 50 و64 عاماً، و3 في المائة فوق الـ65 عاماً.

المساهمون