نهاية عصر بيروت... شيء من نكبة الإدارة والتعليم وعبث الطوائف

12 ابريل 2025
من آثار الحرب الأهلية في وسط بيروت، 13 إبريل 2023 (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تأثير الحرب الأهلية على بيروت والمجتمع اللبناني: الحرب الأهلية اللبنانية بدأت في 1975 وأدت إلى تقسيم بيروت طائفياً، مما أفقدها دورها كمركز اجتماعي وثقافي، وانتقلت الحياة السياسية والثقافية إلى مناطق أخرى.

- تدهور الإدارة العامة وهيمنة الطائفية: الإدارة اللبنانية تدهورت بسبب الطائفية، مما أدى إلى الفساد والمحسوبية وفقدان الكفاءة نتيجة النزاعات الطائفية وعدم ملء الشواغر.

- تراجع التعليم وتأثير الطائفية: التعليم في لبنان تدهور بسبب الهيمنة الطائفية، مما أدى إلى انخفاض مستوى التعليم الرسمي واعتماد الأهالي على المدارس الخاصة لضمان مستقبل أفضل لأبنائهم.

يستحيل حصر ما فعلته الحرب الأهلية في لبنان في مؤسسات البلد وناسه وفي حياة المجتمع. ما يمكن فعله هو تسجيل بعض المعالم التي تعبر عما صارت إليه أوضاع البلاد منذ 50 سنة، ونهاية عصر بيروت

لو أن أحداً عرف لبنان قبل 13 إبريل/نيسان 1975 (تاريخ اندلاع الحرب الأهلية) ويعاينه اليوم، لما وجد ما يمت بصلة إلى ما كان عليه، وما صار إليه على مختلف المستويات. حادثة عين الرمانة لا تزال اليوم حاضرة عبر نتائجها على كل مفترق وفي كل زواية. نبدأ من بيروت. فالحروب التي دارت على خطوط التماس من المرفأ حتى الحدث وكفرشيما جنوباً وتركزت في الوسط التجاري، أدت إلى تدمير مساحة التفاعل المشتركة للعاصمة بفئاتها الاجتماعية والثقافية وتنوعها وتعدديتها. وما حدث أن تلك الأسواق التي كانت بتنوعها تجمع أبناء الوطن الواحد، انتقلت خلال الحرب وبعدها إلى الأحياء ذات الصبغة الطائفية شبه الصافية. فقد باتت للمنطقة الغربية "الإسلامية" أسواقها في الحمراء وكورنيش المزرعة ومار إلياس وشارع معوض في الضاحية الجنوبية. وللشرقية "المسيحية" في ساسين والدورة وجل الديب وبرج حمود والجميزة وبدارو. أما الأسواق التي أعيد بناؤها على يد رفيق الحريري، فلم تفلح في استعادة روح ونبض العاصمة ليصبح الوسط التجاري حكراً على الشركات الكبرى. ثم إن هذه المنطقة شهدت اعتصامات وإقفال لطرقات رئيسية امتد لأشهر وسنوات، ما حكم عليها بالشلل والموات. وعندما طلب رئيسا الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام إعادة فتح الطرقات المقفلة حول البرلمان وشارع المصارف ومقر الأمم المتحدة خصوصاً، لم يترافق ذلك مع عودة الروح إلى تلك المنطقة باعتبارها مكان اجتماع للبنانيين من مختلف المناطق والمنابت الاجتماعية. قبل الحرب، كانت تصب وتنطلق جميع المواصلات في الوسط التجاري ومنه، وفيه كانوا يتخالطون ويتعارفون ويتبادلون العلاقات والمنافع والتأثير والتأثر والبيع والشراء. كان الوسط هذا يكاد يجمع كل لبنان بطبقاته وفئاته الاجتماعية وثقافاته وألوانه. الصحافي مع السياسي والمصرفي مع الفلاح والمثقف مع الأمي والنقابي والعامل مع رب العمل والحرفي مع التاجر، وقس على ذلك. الآن، لا تزال هناك أماكن عبادة متعددة قائمة، ولكنها لا تكفي لتعبر عن المشتركات بين اللبنانيين التي جعلت من تلك المساحة قطعة من الحياة التي لا تخبو، حيث يتصل في يومها ليلها بنهارها دونما انقطاع أو فصل. وليس صدفة أنه خلال نصف قرن، تنقلت الحياة السياسية والثقافية من أحياء العاصمة حيث مقر مجلسي النواب والوزراء إلى حارة حريك (مقر قيادة حزب الله) في الضاحية الجنوبية، فضلاً عن قريطم (مقر زعامة آل الحريري) وعين التينة (مقر نبيه بري) والرابية وميرنا الشالوحي (مقر ميشال عون وحزبه) ومعراب (مقر سمير جعجع) وغيرها. 

سينما ودراما
التحديثات الحية

مدينة الدنيا والناس

من البديهي أن تواكب الصحف ودور النشر الحياة السياسية الجديدة، فجميع الصحف دون استثناء كانت تصدر من هذا المربع الذي تمثله. أما المكتبات ودور النشر، ففي شارع سورية أو شارع المكتبات كما يعرفه قدامى أبناء المدينة. الآن، جميع المطبوعات وجدت مستقرات لها بعيدة عن مركز المدينة باستثناء جريدة "النهار" التي عادت إليه بعد عقود في مقرها القديم قبالة مدخل شارع الحمراء. دور السينما والمقاهي بدأت هي الأخرى الخروج من أسر الوسط منذ أن أخذ شارع الحمراء يلعب دور المغناطيس الجاذب للأنشطة الثقافية. والحقيقة أن دور سينما الريفولي والكابيتول والتياترو والمتروبول والزهراء وغومون بالاس وغيرها حافظت على مكانها حتى احترقت بنار الحرب الأهلية وأزالتها الجرافات. تلك الحرب التي جعلت العشب والأشجار البرية تخترق طبقات الإسفلت وتنمو على نحو فوضوي إلى الحد الذي طغت فيه على المشهد. وما يقال عن دور السينما يقال مثله عن المسارح التي لطالما جذبت الرواد والنظارة لحضور إحدى مسرحيات الفنان الشعبي شوشو المعروضة، أو للاستمتاع بوصلات من الأغاني التي تزخر بها المقاهي الشعبية التي كانت تنتشر في طول المنطقة وعرضها وامتداداتها في الزيتونة وسواها. غيرت الحرب وجه الوسط التجاري، بما فيه ساحات الشهداء ورياض الصلح والبرلمان والدباس، خصوصاً بعدما جاءت الجرافات في أعقاب التوصل إلى اتفاق الطائف ودمرت ما سلم من بيروت القديمة، التي كانت تحمل معاني الألفة والتقارب والتعامل والثقافة والعيش اليومي الواحد. بعض ما تم تدميره لا يزال مجرد مساحات فارغة تعلن عن غياب المعنى الذي لطالما عبرت عنه خلال العقود التي أعلنت تلك الحرب عن نهاية تألقها وتركتها تعيش حال النسيان والإنكار والغياب، بفعل رحيل الرواد الذين لطالما اعتادت عليهم من لبنانيين وعرب وسواح وبحارة من جنسيات قريبة وبعيدة، وأسواق مكتظة تتلألأ بأناسها وبضائعها ولهجاتها وأذواق قاصديها. 
كل ما في بيروت الآن هو خلاف ما كانت عليه مدينة تحمل اسم عاصمة لبنان، لكنها يومها كانت فعلاً عاصمة الشرق العربي. وكما قال الامام الشافعي لتلميذه يونس تلك الجملة المعبرة عن بغداد يقال عن بيروت. سأله الشافعي: يا يونس هل رأيت بغداد؟ أجاب يونس: لا لم أرها. عندما سمع الشافعي جوابه هذا، قال له: يا يونس لم تر الدنيا والناس. بغداد مثلها مثل بيروت كانتا الدنيا والناس. تقريباً، فقدت بيروت دورها ليس على الصعيد العربي فقط، بل على الصعيد الوطني، وباتت كل محافظة تستغني عن العاصمة بأسواقها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها وحركتها التي تستعيض بها عما خسرته.

وسط بيروت حيث الجامع يجاور الكنيسة، 20 فبراير 2019 (نوي فوك نيلسن/Getty)
وسط بيروت حيث الجامع يجاور الكنيسة، 20 فبراير 2019 (نوي فوك نيلسن/Getty)

إدارات الطوائف

الإدارة اللبنانية كانت تعمل كما يجب في مدينة تختصر الشرق العربي وتستقطب الكفاءات وتصهرها في بوتقتها. نجد أنها في غضون نصف القرن هذا، فقدت ما كانت تتميز به من هياكل وأنظمة ومؤسسات تضبط سير عقاربها وانتظام دورها. مجلس خدمة مدنية ومجلس تفتيش مالي وإداري ومعاهد تأهيل عليا لكبار موظفي الإدارة العامة وقضاء ورجال أمن ومجتمع يضج بالحيوية. في غضون الأعوام، أخذت هذه الإدارة تفقد مميزاتها تباعاً حتى وصلنا إلى الواقع القائم والقاتم الآن. خلال عقود، باتت دوائر الدولة إقطاعات ملحقة بالمرجعيات الطائفية. حتى إن الإدارة صارت تتلون بلون الوزير الذي تدفع به إلى موقعه طائفته ممثلة بالحزب السياسي. وأصبحت الوزارات مفرزة للطوائف يمنع على الآخرين الاقتراب منها. ورغم اختلاف الأوزان، الوزير السني يأتي بموظفين سنة، والماروني مثله والشيعي مثلهما وأكثر، وهكذا دواليك. والرشاوى والفساد مستشرية، ويصعب الاقتراب والمس بالفاسدين مهما كان حجم الفضائح المرتكبة فاقعاً، لأن الطائفة ستهب دفاعاً عن "ابنها البار".  لذلك لا حساب ولا مساءلة. والأسوأ أن ما تبقى من سلطة قرر يوماً وقف التوظيف في الإدارة العامة التي تضخمت دون جدوى. ألوف الموظفين يجرى حشوهم ولا عمل لديهم. فقط يصلون كل آخر شهر إلى الدوائر التي جرى تسجيلهم فيها، يوقعون على كشوفات دفع الرواتب فيقبضون رواتبهم.

معرض للمفقودين جراء الحرب في لبنان، 13 إبريل 2010 (أنور عمرو/فرانس برس)
معرض للمفقودين جراء الحرب في لبنان، 13 إبريل 2010 (أنور عمرو/فرانس برس)

وموظفون يتقاضون رواتب من أكثر من دائرة. حتى إنه يقال إن ألوف الأموات ما زال هناك من يتقاضى رواتبهم. وبفعل بلوغ السن القانونية، فقدت الإدارات الرسمية حوالي 70% من عداد موظفي ملاكها الذين يتناقصون بالتقاعد، دون أن تُملأ الشواغر بسبب نزاعات المحاصصة والمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، رغم خطر ذلك على عمل مؤسسات ومرافق حيوية. فمثلاً، خلال عهد الرئيس السابق ميشال عون، رفض توقيع مرسوم تعيين حراس أحراش لانعدام التوازن الطائفي. والأمر نفسه حدث للمراقبين الجويين في المطار، علماً أن الدستور ينص فقط على المناصفة بين موظفي الفئة الأولى وليس سواها. وعلى أي حال، يعلم اللبنانيون أنه كان يستحيل أن يدخل أحد إلى الإدارة اذا لم يكن من أتباع المرجع الطائفي هذا أو ذاك. وغاب دور مجلس الخدمة المدنية ونظام الامتحانات للمرشحين. وبلغ الأمر أن من يريد التوظيف في الدولة عليه أن يقصد مرجعه الطائفي. ومثل هذه الزبائنية من شأنها أن تكرس زعامة النافذين. وغالباً ما كان يحدث خلاف بين المسؤولين على هذا التوظيف، وكل يريد "النار لقرصه" كما يقال، وفي حال الخلاف، يتعطل كل شيء حتى يحدث توافق على قاعدة هذه لي وتلك لك. حالياً هناك 138 مركزاً شاغراً في وظائف عليا بحاجة إلى إشغالها بموظفين جدد، وهذه تأخرت سنوات بفعل النزاعات. الآن جرى وضع مواصفات ومعايير من جانب حكومة الرئيس نواف سلام يأمل اللبنانيون أن تُعتمد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

مبنى عند أحد خطوط التماس في منطقة السوديكو في بيروت، 23 إبريل 2019 (جوزيف عيد/فرانس برس)
مبنى عند أحد خطوط التماس في منطقة السوديكو في بيروت، 23 إبريل 2019 (جوزيف عيد/فرانس برس)

مدرسة الشرق وجامعته  

لكن الأمر لا يقتصر على الإدارة العامة، فما يجري في التعليم أشد كارثية وهو الذي كان دُرة الشرق. لنبدأ من الأعلى إلى الأسفل. قبل 13 إبريل 1975، لم تكن هناك فروع للجامعة اللبنانية. فالكليات جميعاً كانت في ما سمي لاحقاً المنطقة الغربية، وكانت كلياتها تقتصر على الآداب والحقوق والعلوم الاجتماعية والعلوم والتربية. وكان عدد طلابها محدود ولا يتجاوز 5 آلاف. مع تعذر المجيء من المناطق الشرقية إلى الكليات بالنسبة للأساتذة والطلاب، جرى تسويغ قيام فروع ثانية في ضواحي بيروت الشرقية. وبالطبع لم يقتصر الأمر على ذلك، فقد تبعته مطالبة مماثلة في محافظة الشمال، فكان أن فُتحت فروع في طرابلس وتبع ذلك في البقاع وكذلك في الجنوب. الآن هناك أكثر من 50 فرعاً للجامعة في المحافظات اللبنانية كافة تعود إلى 18 كلية ومعهداً عالياً. وبديهي أن تلك الفروع سرى عليها ما سرى على الإدارة اللبنانية من هيمنة الطائفي على الأكاديمي. وبات الفرع نسخة طبق الأصل عن هوية المنطقة، فالمدير يجب أن ينتمي إلى الطائفة المسيطرة والأساتذة أيضاً والطلاب إلى حد ما. هذه المعادلة لا تتغير، وإذا حدث وتغيرت، تتدخل المرجعيات الطائفية مؤكدة العودة إلى "جادة الصواب" المذهبية. هذا الوضع قيّد الجامعة عن استيعاب الطلب المتصاعد، ما أفادت منه الجامعات الخاصة التي نبتت كالفطر في عموم المناطق ووصل عددها إلى 45 جامعة أسماها وزير الثقافة غسان سلامة يوماً "بوتيكات" (دكاكين) تعليم. وجذبت الطلاب إليها وحصلت منهم على أقساط ورسوم بالدولار الطازج حققت لها أرباحاً فعلية. بديهي القول إن تعدد الفروع لم يخضع لحسابات أكاديمية أو تنموية بل مجرد تعبير عن "حقوق" الطوائف والمناطق. 

تقارير عربية
التحديثات الحية

التعليم الرسمي العام بدوره أصابته الكارثة. ففيما كان هذا التعليم يسير حثيثاً نحو استقطاب نصف الطلاب تاركاً النصف الآخر للمدارس الخاصة، إذا به يسجل رحلة تراجع متمادية، حتى إن حصته اليوم لا تصل إلى ثلث العدد الإجمالي للطلاب في مرحلة ما قبل التعليم العالي. هذا مع العلم أن الانهيار المالي والنقدي يجب أن يدفع نحو زيادة وزنه العام، باعتبار أن ذوي التلامذة فقدوا ويفقدون قدراتهم على دفع الأقساط عن أبنائهم للمدارس. لكن عوامل متعددة قادت الأهل إلى "بيع الغالي بالرخص" لتأمين المبالغ المطلوبة لتعليم أولادهم في المدارس الخاصة وضمان مستقبلهم بالتالي. أبرز الأسباب يتمثل باعتماد التعليم الرسمي على التعاقد حتى دون امتلاك المؤهلات التربوية المطلوبة التي يحصل عليها خريجو كليات التربية، ما قاد إلى تراجع مستوى المدرسة الرسمية. والمتعاقدون غالباً ما كانت الأحزاب المهيمنة هي من تتولى الضغط للتعاقد معهم ثم إدخالهم إلى الملاك. وغالباً هؤلاء لا يملكون مقومات المستوى التربوي المطلوب. هذا إلى جانب التسيب والفوضى الإدارية وضعف الحوافز وتراجع الأجور والرواتب وضعف التقدير المعنوي. وهكذا لحق التعليم بالإدارة العامة لجهة تردي الإنتاجية أو المخرجات. وفي وضع على هذا النحو، لم يعد لدى الأهل من مهرب سوى توجيه أبنائهم نحو المدرسة الخاصة التي تتمتع بانضباط إداري ومرونة خلاف ما هي عليه المدرسة الرسمية.

المساهمون