استمع إلى الملخص
- يعيش النازحون في ظروف قاسية، حيث يفتقرون إلى وسائل النقل والوقود، ويضطرون للسير في أجواء باردة وممطرة، ويواجهون نقصًا في الطعام والمياه، مما يزيد من معاناتهم اليومية.
- تتنوع قصص النازحين بين محاولات التأقلم مع الواقع الجديد والبحث عن الأمان، حيث يواجهون تحديات كبيرة في توفير احتياجاتهم الأساسية ويعيشون في خوف دائم من القصف.
بعد رحلة نزوح طويلة في جنوب قطاع غزة، عاد أكثر من نصف مليون فلسطيني إلى شمال القطاع بعد وقف إطلاق النار، لكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين من جديد إلى النزوح مع تجدد العدوان الإسرائيلي.
لا تتوقف حركة النزوح على امتداد شارع الجلاء الواصل بين مدينة غزة وشمال القطاع منذ ثلاثة أيام، بعد أوامر الإخلاء التي أصدرها جيش الاحتلال لسكان مدينتي بيت حانون وبيت لاهيا (شمال)، والحال نفسه متكرر بالنسبة لسكان بلدات شرق مدينة خانيونس (جنوب).
ومنذ فجر الثلاثاء 18 مارس/ آذار الماضي، يواصل جيش الاحتلال القصف الجوي والمدفعي والبحري على أنحاء قطاع غزة، مخلفاً مئات الشهداء والمصابين، وباتت أوامر الإخلاء أحد أسلحة الحرب التي يستخدمها جيش الاحتلال لتنغيص حياة أهالي غزة، وعدم ترك مساحة أو فرصة للراحة، أو العيش في أنقاض بيوتهم بعيداً عن التشرد الذي يلاحقهم منذ ستة عشر شهراً.
يحمل بعض الأهالي أمتعتهم ومقتنياتها وملابسهم على شاحنات صغيرة أو عربات الكارو أو دراجات هوائية، والكثير منهم اضطروا إلى النزوح مشياً على الأقدام لانعدام وسائل النقل أو عدم توفر الوقود، في ظل أجواء باردة وممطرة، ونقص في الطعام مع استمرار إغلاق المعابر. عند وصولهم إلى وجهتهم، يفترشون الشوارع، أو يستقرون داخل البيوت شبه المهدمة، أو يزيدون مراكز الإيواء المزدحمة تكدساً.
أوامر إخلاء إسرائيلية تدفع عشرات الآلاف في غزة إلى نزوح جديد
عاد عشرات آلاف النازحين إلى الشمال في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، ليسكنوا في الخيام، أو يصلحوا أجزاء من بيوتهم المدمرة للبقاء فيها، ويحاولوا التأقلم على واقع منكوب خال من أدنى مقومات الحياة، في ظل ندرة المياه والطعام، وانقطاع الكهرباء، قبل أن يستيقظوا على أوامر إخلاء جديدة تدفعهم إلى رحلة تشرد جديدة، رغم أن فرحة عودتهم إلى الديار لم تكتمل.
تتجهز الفلسطينية هبة أبو عودة للنزوح عبر شارع "الثورة" تاركة تجمعاً للخيام في وسط مدينة غزة حيث كانت تستضيفهم إحدى العائلات، تضع الحقائب والمستلزمات الضرورية على الأرض، وتحكي لـ"العربي الجديد": "عدنا إلى بيت حانون بعد نزوح سنة ونصف سنة، فوجدنا منطقتنا ركاماً ولا تصلح للعيش، فقررنا تعميرها قدر استطاعتنا، وعانينا كثيراً نظراً إلى غياب الآليات والجرافات. وضعنا خياماً إلى جانب منازلنا للمبيت فيها، وبعد أن بدأنا نستقر، أفقنا على صدمة أوامر الإخلاء الجديدة. قبل ثلاثة أيام، قصف جيش الاحتلال بيت شقيقتي، وهي الآن في غرفة العناية المكثفة. أنا زوجة شهيد، وترافقني شقيقة زوجي التي استشهد زوجها هي الأخرى. غزة صارت مليئة بالأيتام والأرامل، لكن لا أحد يسأل عنا".
تضيف أبو عودة: "اشترينا أغراضاً ونصبنا خيمة عندما عدنا، في محاولة للتعايش مع الواقع، فنحن شعب اعتاد أن يصنع شيئاً من لاشيء، ويمكننا أن نعيش في كل الظروف، لكن الاحتلال لم يتركنا، ويلاحقنا حين نشعر أننا سنستقر بعيداً عن القصف والموت".
بدورها، وجدت فاطمة عودة، وهي نازحة من بيت حانون أيضاً، ركناً في جدار إحدى المدارس، فغطته بشادر كي تحتمي مع أطفالها أسفل سقف، وفي الداخل، لا يوجد سوى فرشتين وبعض الحقائب الصغيرة. تحكي بمرارة عن رحلة نزوحهم مشياً، قائلة لـ"العربي الجديد": "وضعت بعض قطع الملابس في كل حقيبة، وكل طفل حمل حقيبته وبدأنا السير، كنا بين مسافة وأخرى نجلس للراحة، حتى وصلت إلى المدرسة، وحصلت على هذه المساحة الصغيرة. ننام على أرضية باردة لعدم وجود فرش، ونعيش بلا طعام أو مياه، ولولا أن جارتي هنا زودتني بطعام للإفطار لبقيت صائمة جائعة".
قبل أذان المغرب بدقائق، كان النازح عبد الرحمن أبو هربيد يضع أغراضه التي أحضرها معه على عربة "توك توك" في أحدى زوايا مبنى "جمعية أطفالنا للصم"، الذي تعرض للقصف خلال الحرب، ورغم الركام الذي يملأ المبنى وتكسير أعمدة عديدة فيه، وضعت عشرات العائلات النازحة خيامها داخله لانعدام البدائل.
يقول أبو هربيد لـ"العربي الجديد": "عدنا إلى بيت حانون من نزوح طويل، وعشنا ظروفاً صعبة، وها نحن نبدأ معاناة نزوح أخرى في ظروف أصعب مع استمرار إغلاق المعابر. خلال نزوحي الأخير، لم أجد وسائل نقل لغياب الوقود، وبحثت في مراكز إيواء عدة عن مكان، لكنها كانت ممتلئة، ولم أجد سوى هذا المكان المهدم. مضطرون للتعايش، فهذا هو المتاح".
وقبل قدوم النازحين إلى هذا المربع السكني المدمر، كانت الحياة فيه منعدمة، وتسكنه العصافير، رغم أن مبنى "أطفالنا للصم" كان يعج قبل الحرب بالحركة، وإلى جانبه أنشئ مؤخراً مصلى بديلاً عن مسجد فلسطين المدمر في وسط مدينة غزة.
أمضى الفلسطيني قاسم الكفارنة ثلاثة أيام في المكان نفسه، ويقول لـ"العربي الجديد": "ننشغل منذ ثلاثة أيام بإزالة الركام حتى وجعتنا ظهورنا ومفاصل أقدامنا. ننظف شيئاَ فشيئاً، لكن لا توجد مياه، ما يجعل المعاناة صعبة، لكننا مجبرون على تمضية هذه الأيام فيه لعدم توفر أماكن بديلة، فكل الشوارع والساحات العامة ومراكز الإيواء ممتلئة".
في وسط شارع الجلاء، كان أنيس غانم يدفع دراجة هوائية وضع عليها حقائب وملابس ضرورية، يحاول مقاومة رياح باردة محملة بالغبار ومصحوبة بزخات من الأمطار، ويرافقه طفل صغير يركب على الدراجة. كان يعرف وجهته على عكس كثير من النازحين، إذ استطاعت زوجته النزوح قبله مع بعض أطفالهما، واستضافتهم عائلة في مخيم إيواء بساحة ملعب اليرموك، على أمل أن يجدوا مكاناً في المخيم أو مساحة في مركز إيواء آخر.
على امتداد الشارع، يظهر طابور طويل من عربات الكارو التي تحمل أخشاباً وأمتعة وخزانات مياه وخياماً وشوادر، فيما يسير أصحابها مشياً بجوارها، وقد تكرر هذا المشهد في رحلات النزوح السابقة، وهي تحاكي مشاهد النزوح والتهجير إبان النكبة الفلسطينية في عام 1948، التي ما زال الشعب الفلسطيني يعيشها داخل القطاع.
يملأ القهر وجه الفلسطيني أحمد الذي غادر منطقة العطاطرة غرب بيت لاهيا، بعدما عاش ليلتين داميتين في المنطقة، ويحكي لـ"العربي الجديد" بينما يسير بدراجة هوائية يحمل عليها بعض الحقائب: "أصبح الوضع في العطاطرة خطيراً، فمنذ يومين، لم تتوقف القذائف والأحزمة النارية، وقبل الإفطار بدقائق، قصفت طائرات الاحتلال منزل جارنا وسيم مبارك، فاستشهد مع سبعة أفراد من عائلته، وفي اليوم التالي، عندما أقامت بقية العائلة بيت عزاء، تعرضوا للقصف، ومسحت العائلة بالكامل من السجل المدني".
يضيف: "لا أعرف إلى أين أذهب؟ حتى إنني تفرقت عن عائلتي خلال النزوح. سارت غالبيتنا باتجاه مدينة غزة، لكننا تشتتنا عن بعضنا، فيما أصرّ آخرون على البقاء في منطقتنا بعدما ذاقوا ويلات النزوح السابق في جنوب القطاع رافضين تكرار التجربة".
على أحد أرصفة الشارع، يجلس بسام غبن ويحمل طفلاً صغيراً يلفه بالأغطية لحمايته من البرد، وترافقه ثلاث من نساء أشقائه يحملون أطفالاً ورضّعاً، يحاولون الاحتماء أسفل بناية بعد سقوط زخات من المطر مصحوبة برياح قوية. استغرقت رحلة نزوح غبن ومن معه عدة ساعات مشياً على الأقدام، مروراً بأنقاض شمال غزة، وصولاً إلى شارع الجلاء، ويقول لـ"العربي الجديد" وهو يستعد لإكمال رحلة النزوح: "عدنا من جنوب القطاع، ونصبنا خيمة بجانب ركام بيتنا، لكننا تركنا كل شيء وخرجنا من جديد ببعض الحقائب".
في مشهد آخر، ورغم المساحة الواسعة لمتنزه "الجندي المجهول" وأرض منطقة الكتيبة غربي مدينة غزة، إلا أن المساحتين امتلأتا بالخيام مع بدء موجات النزوح من شمال القطاع. أمام خيمتها البلاستيكية، تحاول أم أحمد إشعال النار بوضع بعض ألواح الزينكو الصغيرة في عدة اتجاهات، وبعد محاولات عديدة فشلت نتيجة الرياح القوية، اشتعلت النار، فبدأت بسكب العدس مع الماء داخل آنية طعام سوداء نتيجة احتراقها بفعل كثرة الاستخدام.
ويواجه الصائمون في غزة صعوبات كبيرة في توفير طعام الإفطار، وباتت المعلبات هي الطعام المتوفر لدى الكثير من العائلات. تقول أم أحمد لـ"العربي الجديد": "الوجود في ساحة الجندي المجهول يجعلك ترى وميض الصواريخ ليلاً، وتضع يدك على قلبك خوفاً من الشظايا، فهذه الخيام لا تستطيع توفير الحماية لنا. عشنا القصف والنزوح والتشرد طوال ستة عشر شهراً، ونفر من الموت والقصف يومياً محاولين النجاة بأنفسنا وأطفالنا".