استمع إلى الملخص
- يعبر النازحون عن مشاعر مختلطة تجاه العودة؛ بعضهم يستعد للعودة رغم الدمار، بينما يفضل آخرون الانتظار بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة.
- رغم التحديات مثل الدمار وفقدان الخدمات، يبقى الأمل في إعادة البناء قائماً، مع تأكيد البعض على عدم التخلي عن الوطن رغم صعوبة الغربة.
عند الساعة الرابعة من فجر اليوم الأربعاء 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، دخل قرار وقف إطلاق النار في لبنان حيّز التنفيذ، فأوقفت المقاتلات الإسرائيلية غاراتها ومدفعية جيش الاحتلال قصفها على مختلف الأراضي اللبنانية، ولا سيّما الجنوب وبعلبك-الهرمل والبقاع (شرق) وضاحية بيروت الجنوبية وكذلك العاصمة بيروت.
ومذ بدأ المشهد النهائي يتشكّل، أوّل من أمس الاثنين، راحت تُسجَّل حالة ترقّب حذر بين النازحين اللبنانيين، هؤلاء الذين هجّرتهم آلة الحرب الإسرائيلية منذ 23 سبتمبر/ أيلول الماضي، وآخرون منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. من بين هؤلاء من سارع إلى توضيب أمتعته في انتظار إعلان قرار وقف إطلاق النار رسمياً، حتى لا يتأخّر في العودة إلى أرضه وبيته، ولو مدمّراً. بالنسبة إلى كثيرين، فإنّ الخيمة على أنقاض البلدة أرحم من النزوح. أمّا آخرون، ففضّلوا التريّث، وما زالوا بعد إعلان القرار، حتى "تتّضح الأمور أكثر" و"تستقرّ الأحوال الأمنية"، خوفاً من غدرٍ إسرائيلي محتمل. إلى جانب هؤلاء، لبنانيون لم يُخفوا فقدانهم الأمل بنجاح أيّ تسوية.
سلمان وهبي، من الجنوبيين الذين هجّرتهم آلة الحرب الإسرائيلية. هو نزح من مدينة النبطية الجنوبية، وراح يتنقّل بين بيوت أبنائه الموزّعة ما بين بلدات كترمايا وشحيم والحازمية الواقعة في محافظة جبل لبنان. يقول لـ"العربي الجديد": "لستُ متفائلاً بوقف إطلاق النار ولا بالعودة. سنبقى حيث نحن لبعض الوقت، ونراقب عودة الأهالي وتطوّر الأوضاع السياسية والأمنية، قبل أن نبني على الشيء مقتضاه". يضيف أنّ "العودة لم تعد تعني لنا شيئاً بعد استشهاد حفيدنا"، مشيراً إلى أنّه "لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وقد استشهد عندما كان يساعد أصدقاءه في الهيئة الصحية الإسلامية، في عمليات إغاثة الجرحى ورفع الجثث". ويتابع: "واستشهدوا بغارة معادية قبل نحو أسبوع. دُفن حفيدي من دون أن يسمح لنا الوضع الأمني بإلقاء النظرة الأخيرة عليه".
ويبدو وهبي، الذي يعمل في مجال تصوير الأفراح والاحتفالات، حاسماً بشأن ما سيأتي به بمجرّد عودته إلى مدينته. ويخبر "العربي الجديد" بغصّة أنّه سيتوجّه إلى قبر حفيده و"أبكي الكارثة التي حلّت بنا وبكثيرين غيرنا". يضيف أنّ في ظلّ ما عاشه لينان أخيراً، "الحسرة لا توصف والحزن كبير. حُرمنا ذكرياتنا وذاكرتنا ومتعة العيش بعد كلّ المصائب وحجم الموت والدمار، وفقدنا حياتنا وأعمالنا، وأثبت لنا النزوح أنّنا كما السمك.. يموت عند إخراجه من المياه". ويشدّد وهبي: "نريد العودة حتماً والعيش في مدينتنا (النبطية)، غير أنّ المشهد سيكون قاسياً (...) ولا أعرف إذا كنّا سنتخطّى الواقع المرير في سنة أو حتى ثلاث سنوات". ويبدو متشائماً وهو يقول إنّ "سكان القرى الحدودية لن يكون أمامهم سوى الركام والرماد والبكاء على الأطلال والعودة إلى أماكن نزوحهم".
أمّا ياسر إبراهيم ابن بلدة حولا الجنوبية الحدودية، فيخبر "العربي الجديد" أنّهم جهّزوا أمتعتهم، لافتاً إلى أنّهم "في الأساس لا نملك إلا حقيبة واحدة حملناها معنا عند نزوحنا من ضاحية بيروت الجنوبية". هو توجّه مع عائلته إلى بيت ابنة عمته في بلدة الدبّية إلى الجنوب من بيروت قبل نحو شهرَين، علماً أنّه كان قد نزح من حولا قبل نحو عام ولجأ إلى بيت أولاده في الضاحية. وبعد وقف إطلاق النار، توجّه إبراهيم إلى بيت الأولاد في الضاحية، على أن ينطلق إلى حولا. يضيف: "أودّ الاطمئنان على بيتي هناك"، مشيراً إلى أنّ "الأقمار الاصطناعية تؤكد أنّ البيت ما زال واقفاً، لكنّنا لا نعرف حجم الأضرار من الداخل، خصوصاً أنّ غارة وقعت بالقرب منه قبل تصاعد الحرب". بالنسبة إلى إبراهيم، "نترقّب العودة إلى أراضينا وممتلكاتنا ويومياتنا في الزراعة. حتى لو كانت قرانا مدمّرة، سنعيد بناءها".
كما ياسر إبراهيم، نزح حسين مزرعاني من بلدة حولا الجنوبية الحدودية إلى مدينة جبيل الواقعة إلى الشمال من بيروت. لكنّه لا يشارك ابن ضيعته تفاؤله. ويسأل: "عن أيّ عودة نتحدّث؟ أين نقيم مع عائلاتنا؟ البيوت إمّا تدمرت وإمّا لم تعد صالحة للعيش، خصوصاً مع حلول البرد واقتراب فصل الشتاء". يضيف لـ"العربي الجديد": "لا يمكننا العودة قبل نحو خمسة أشهر على الأقلّ إلى بيوتنا"، مشيراً إلى ما "نعانيه منذ أكثر من سنة من توقّف أعمالنا وأشغالنا وكلّ تفاصيل حياتنا".
من جهة أخرى، لا تخفي مريم فقيه من بلدة كفرتبنيت الجنوبية "الأمل والسعادة" اللذَين غمراها مساء أوّل من أمس الاثنين، عند بدء التداول جدياً باحتمال إبرام اتفاق وقف لإطلاق النار. تقول لـ"العربي الجديد" إنّ "فرحة العودة إلى بلدتنا وبيوتنا وأرزاقنا كبيرة جداً، على الرغم من كلّ الخسائر التي لحقت بنا من استشهاد أحبّاء وأعزاء وأقرباء". وتشير إلى أنّها "في حالة استنفار وترقب" منذ الاثنين الماضي، "وقد سارعنا إلى توضيب أغراضنا والاستعداد لمغادرة مكان نزوحنا في بلدة مجدليا (شمال لبنان)". تضيف فقيه أن منذ ذلك الحين، "وضعنا الأمتعة في السيارة، في انتظار إعلان وقف إطلاق النار. حتى فرحة الأطفال لا توصف، وهم متلهفون للعودة إلى منازلهم وألعابهم وذكرياتهم ومساحات اللهو الخاصة بهم". وتؤكد فقيه: "إنه شعور رائع، لكنّه حتماً ممزوج بالغصّة، إذ إنّ الحزن كبير في كلّ بيت وفي كلّ زاوية، والمأساة كذلك في كلّ حارة سقط شهداء فيها".
بدوره، استعدّ فضل غضبان للعودة إلى بلدته ميس الجبل الحدودية الجنوبية، التي دمّرها جيش الاحتلال الإسرائيلي بمعظمها، إذ عمد إلى تفخيخها ثمّ نسفها. ويؤكد لـ"العربي الجديد" أنّه حزم أمتعته يوم أمس الثلاثاء، لينطلق اليوم الأربعاء في الصباح الباكر من مكان نزوحه في بلدة شكّا (شمال لبنان) في اتجاه جنوبه. وقبل أن يتّجه جنوباً، كان غضبان قد قال: "إن وجدت بيتي مدمّراً، سأنصب خيمة تقيني وابن أخي العواصف والأمطار". ويقول ابن ميس الجبل: "تعبنا من النزوح المتكرّر. فقد نزحنا في نهاية العام الماضي إلى صير الغربية في قضاء النبطية (جنوب لبنان)، قبل أن نضطر إلى النزوح مجدّداً مع تصاعد الحرب (قبل شهرَين) إلى العاصمة بيروت حيث بقينا في الشارع يوماً كاملاً، قبل أن يؤمّن لنا أحد الأصدقاء بيتاً صغيراً في شكّا". ويؤكد غضبان: "اشتقت إلى الزراعة والمنتجات البلدية ورائحة التراب، واشتاق ابن أخي إلى عمله في الخشب".
في الإطار نفسه، راح أحمد العقاد (أبو محمد) الذي نزح مع عائلته وأحفاده من برج البراجنة في ضاحية بيروت إلى بلدة بشامون الواقعة إلى الجنوب من العاصمة، يستعدّ ويوضّب أغراضه بمجرّد بدء التداول باتفاق لوقف إطلاق النار. يقول لـ"العربي الجديد": "نحن ننتظر العودة إلى بيوتنا على أحرّ من الجمر، ولا نصدق لحظة الوصول إلى أرضنا وأرزاقنا، لكنّنا نخشى كذلك غدر العدوّ".
في المقابل، لا تخفي زينب المصري النازحة من ضاحية بيروت الجنوبية أنّها فضّلت التمهّل والبقاء في مكان نزوحها في بيروت إلى حين اتّضاح الصورة أكثر. وتقول لـ"العربي الجديد": "لم أجهّز أمتعتي، ولن أعود إلى الضاحية قبل أسبوعَين على الأقلّ، لأنّ الوضع لا يدعو إلى الاطمئنان"، مشيرةً إلى "خوف من عودة الحرب". ثمّ تسأل: "إلى أين أعود، بعدما تضرّر بيتي بصورة كبيرة وهبط سقفه؟"، وتتابع: "بيت شقيقتي القريب من الجامعة اللبنانية في منطقة حيّ السلم (ضاحية بيروت الجنوبية)، تكسّرت نوافذه وأبوابه، فيما الركام في داخله. فإلى أين نعود؟".
في سياق متصل، يتحدّث الإعلامي محمود حرز، النازح من بلدة مجدل سلم الجنوبية، لـ"العربي الجديد" عن حجم الصدمة التي ستلحق بالنازحين عند عودتهم إلى بلداتهم وقراهم المتضرّرة. ويصف يوم العودة بأنّه "يوم حزين ومؤلم"، موضحاً أنّ "الشهداء تحت الأنقاض، البيوت مدمّرة، مقومّات الحياة معدومة، خدمات المياه والتيار الكهربائي والإنترنت غير متوفّرة، إلى جانب كوارث عديدة". يضيف حرز: "لن يكون في إمكان أيّ بلدة مواساة البلدات الأخرى، فالكلّ منكوب ومُصاب والواقع سيّئ وفظيع". وإذ يقول "سوف نفتقد كلّ شيء"، يؤكّد "لكنّنا كلّنا أمل بإعادة البناء والترميم وعودة الحياة إلى طبيعتها، على الرغم من الأحوال المعيشية السيئة".
إلى جانب النازحين في الداخل، ثمّة من غادر لبنان مع تصاعد العدوان الإسرائيلي. عيسى عطا الله واحد من هؤلاء، بعدما نزح من مدينة صور الجنوبية إلى مدينة صيدا الجنوبية وفقدانه الأمل بأيّ حلّ قريب. هو سافر برفقة والده، قبل نحو أسبوع. يقول لـ"العربي الجديد": "فضّلنا اللحاق بوالدتي والإقامة مع إخوتي في فرنسا. لن أعود إلى لبنان في الوقت الحاضر، لأنّ وقف إطلاق النار لا يعني سهولة العودة بعد كلّ الدمار الحاصل، وبعد القضاء على شبكات الخدمات. كذلك فإنّ القرى التي دُمّرت بالكامل لن تُبنى بين ليلة وضحاها". ويكمل عطا الله أنّ "على الرغم من أنّ العدو الإسرائيلي عدوّ البشرية والإنسانية، إذ دمّرنا ودمّر أراضينا، فإنّنا لن نتخلّى عن بلداتنا وأراضينا. سوف نعود وسوف نبني كما في كلّ مرّة"، مؤكداً "لا بديل من لبنان أينما ذهبنا". ويلفت إلى أنّ "والدي متحمّس للعودة إلى أحضان الوطن. بالنسبة إليه، هو الذي ناهز عمره 87 عاماً، فإنّ الغربة صعبة.. كأنّما هو شجرة تُقتلَع من جذورها".