استمع إلى الملخص
- في خانيونس، يستعد أحمد نصار لشراء مستلزمات إعادة تعمير منزله المتضرر، مشددًا على الروابط القوية التي تشكلت بين العائلات النازحة والمستضيفة.
- يعبر النازحون عن سعادتهم بالعودة رغم الدمار، ويستذكرون حسن الضيافة والعلاقات الاجتماعية الجديدة التي نشأت خلال النزوح، مع حزن لترك جيران وأصدقاء جدد.
بدأ النازحون في مراكز الإيواء وتجمعات الخيام بوسط وجنوبي قطاع غزة، توضيب الحقائب والأغراض تمهيداً للعودة إلى مناطقهم، والتي كانوا قبل أسابيع فقط يرونها حلماً نتيجة التحصينات التي أقامها جيش الاحتلال في "محور نتساريم"، والتي يقوم حالياً بتفكيكها حسب اتفاق وقف إطلاق النار الذي يمهد طريق العودة إلى الشمال.
وتشمل الاستعدادات مشاهد الوداع المتكررة، والكثير من العرفان من قبل النازحين، وتبادل ذكريات حياة جمعتهم على "الحلوة والمُرّة" خلال أشهر الحرب، وتقاسموا فيها الجوع والعطش والخوف.
في أحد أسواق وسط مدينة خانيونس، يتجول أحمد نصار رفقة أبنائه وزوجته، يخيم على وجوههم الفرح وهم يشترون بعض الأغراض اللازمة لرحلة العودة إلى بيتهم في حي الصبرة بمدينة غزة، والذي تعرض لأضرار بليغة، لكنه مصمم على العودة، وإعادة تعميره.
يقول نصار لـ"العربي الجديد": "ذهبت لوداع أخي الذي استضافنا في بيته لفترة، كما ودعت شقيقتي، وسأذهب لزيارة وداع ثالثة. أحاول أن تكون الأيام الأخيرة لنا هنا جميلة بعد أن عشنا قسوة الحرب معاً، وكنا متضامنين في الحلوة والمُرّة. نحن شعب متكاتف، وستبقى الذكريات عالقة في أذهاننا، فقد واجهنا مصاعب وتحديات كثيرة، وتشاركنا أعباء الحياة، وتوفير المياه والطعام، والوقوف في الطوابير. عشت لأشهر بالإيجار، وتعرف أبنائي على أبناء الجيران وأصبحوا أصدقاء، وانخرطوا في التعليم، وتأقلمنا مع ظروف النزوح، والآن سنعود إلى حياتنا التي اعتدنا عليها بمدينة غزة".
في ذات المركز، يستعد مئات الأهالي للمغادرة فور السماح بعودة النازحين، ويبدو الاستعجال واضحة على الحركة، والتي تمتزج بالمصافحة والعناق وغيرها من سبل الوداع بين الصغار والنساء والرجال، بعد حياة تشاركوا فيها كل أشكال المعاناة.
في الساحة، يتجمع العديد من الرجال لمناقشة طرق الانتقال، ومن بينها التشارك لاستئجار حافلة، أو الاتفاق على العودة مشياً على الأقدام في جماعات كبيرة، وخطة الطريق التي تشمل الوصول إلى "تبة النويري" الواقعة غرب مخيم النصيرات في وسط القطاع، ثم التوجه شمالاً.
قبل شهور، نزح الفلسطيني سلطان أبو عودة من بيت حانون، مع زوجته وأطفاله. يجلس داخل مركز إيواء بمدينة خانيونس، مستنداً على جدار إسمنتي، يتبادل الضحكات مع آخرين إلى جواره، بينما تتركز نظراته على ساحات المدرسة التي كان الصغار يلعبون فيها بلا خوف، بعد فترة نزوح صعبة عاشوها في مركز الإيواء.
يقول أبو عودة لـ"العربي الجديد": "هذه الجلسة قد تكون الأخيرة لي هنا، ومشاعر الفرح تغمرني بالطبع، فقد كنا نعيش لأشهر أشكالاً من المعاناة القاسية التي لا يمكن وصفها، لكن تأقلمنا معها، وصبرنا عليها، والآن نستعد للعودة إلى الديار. إنها لحظات كنا ننتظرها بفارغ الصبر، وكنا أحياناً نراها حُلماً لن يتحقق. بيتي مدمر، وسأحاول إنشاء خيمة قربه، واستكمال الحياة. العيش قرب البيت، وإن كان ركاماً، لا يضاهيه أي شيء أخر".
بدورها، تقول زوجته: "تسود مشاهد الوداع بين آلاف العائلات النازحة التي تقاسمت المعاناة. نشعر ببعض الغرابة لأننا سنفارق هذا المكان بعد فترة طويلة من البقاء فيه. أصبح لدينا هنا جيران وأحباب، واعتدنا على العيش معهم. لكننا أيضاً سعداء بالقدرة على العودة إلى الشمال. بيت حانون مدمرة بشكل شبه كامل، ورغم ذلك نحن في شوق كبيرة للعودة".
من جانبه، يستذكر الفلسطيني عبد الكريم بركة، وهو من سكان الجنوب، اللحظات الأولى لوصول أهالي مدينة غزة وشمال القطاع، قائلاً: "عندما بدأ النزوح، فتحنا بيوتنا لاستقبال النازحين بحسن ضيافة وتكاتف يعكس الترابط والمحبة والكرم الذي يمتاز به شعبنا. لم يقصر أهل الجنوب في إكرام النازحين، باستثناء بعض الأشخاص الذين استغلوا النازحين من خلال رفع إيجارات البيوت، بينما غالبية الأهالي احتضنوا النازحين".
وعن عودة النازحين، يوضح بركة لـ"العربي الجديد": "نحن سعداء لأنه لم يحدث تهجير، وقد سادت حالة من الترابط الأسري بين العائلات، وهذا سيمتد إلى ما بعد الحرب التي أنتجت علاقات اجتماعية لن تنتهي بعد توقف إطلاق النار، وقد رأينا العديد من المصاهرات بين أهل الجنوب والشمال، وكوني أعمل في تأجير ملابس الأعراس، لمست ذلك عبر حالات عديدة".
في مشهد آخر لاستعدادات العودة ولحظات الوداع، يقول محمد موسى الموجود في خيمة على مقربة من "تبة النويري": "وصل العديد من النازحين قبل عدة أيام من الجنوب، ويعيشون مع أقارب لهم هنا بهدف التوجه إلى مدينة غزة ضمن الأفواج الأولى العائدة. الكثير من العائلات فككت الخيام ووضبت الحقائب والأمتعة تمهيداً للعودة".
عاش موسى لمدة خمسة عشر شهراً مع عشرات العائلات النازحة في تجمع خيام، ويضيف لـ"العربي الجديد": "لا يمكن وصف الحالة حالياً، فالنازحون سعداء لأنهم سيتمكنون من العودة إلى مناطقهم ومنازلهم، لكنهم في ذات الوقت يشعرون بالحزن لأنهم سيتركون من أصبحوا جيراناً وأصدقاء عاشوا معهم طوال الفترة الماضية. ينتمي النازحون هنا إلى عدة مدن وبلدات، وفي بداية الحرب، نزحنا إلى مدينة رفح، وفتح أحد المعارف منزله لنا، وكنا نتشارك في إعداد الخبز والطعام وجلب المياه، وبعد اجتياح رفح، نزح أكثر من مليون شخص مجدداً منها، ووصلنا إلى منطقة الزوايدة غرب المحافظة الوسطى، لنستكمل حياة النزوح، ونتشارك نفس المعاناة التي عشناها في رفح".
يتابع: "عشنا لأشهر طويلة متكاتفين، وكنا مثل الأهل، وعوضنا ذلك بعض الشيء. أعيش بعيداً عن زوجتي وبناتي، وأنتظر السماح بالعودة بعد انسحاب جيش الاحتلال من محور نتساريم. رغم لحظات الوداع الصعبة هنا، تنتظرنا لحظات عناق مع من ينتظروننا هناك".