ناجون من الانتحار... ضرورة الدعم لتجاوز الأزمات

ناجون من الانتحار... ضرورة الدعم لتجاوز الأزمات

27 نوفمبر 2020
الرغبة بالانتحار ليست وليدة لحظتها (Getty)
+ الخط -

الانتحار أو محاولة الانتحار من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تخلف أثراً سيئاً في البيئة المحيطة لا يختفي بسهولة. المسؤولية الاجتماعية تكبر كلما واجهنا أشخاصاً يعيشون خطر الانتحار، إذ لا سبب يمنع تقديم الدعم النفسي والعائلي في ظلّ ما نعيشه من تطور وتوفر جمعيات تعنى بالدعم النفسي خصوصاً، ومعظمها مجانية. وكلما واكبنا الأشخاص بشكلِ مبكر كلما ساهمنا بإنقاذهم ومساعدتهم في تخطي المراحل الصعبة التي يمرون بها.
يقول رجا، وهو ناجٍ من محاولة انتحار: "في كلّ مرة أكون على مقربة من قرار الانتحار وإنهاء كلّ الألم الذي أمرّ به، كنت أفكر بعائلتي. كنت أفضّل أن أشعر وحدي بهذا الألم وتحمّل كلّ ما يمرّ في رأسي من أفكار على أن يعيش من هم حولي مأساة موتي. وكانت الطريقة الوحيدة لتفادي هذه المحاولة هي ذهابي إلى قسم الطوارئ في المستشفى. فالانتحار لا يتطلب فقط إرادة بل تخطيطا مسبقا، ثم نية الانتحار إلى أن أصل الى المحاولة الفعلية للانتحار". 
يضيف: "يستمر التفكير بالانتحار أياماً وربما أسابيع، فقد كانت الطريقة الوحيدة هي تعديل الدواء والمتابعة مع المعالج النفسي كي أصل إلى مرحلة الراحة النفسية والابتعاد عن فكرة الموت". يتابع رجا: "بدأت حالتي عام 2006، وكان آخر عام دراسي لي في المدرسة، وخلال عطلة الفصح تحديداً بتّ أشعر بأفكار غريبة تدور في رأسي لم أشعر بها من قبل؛ الخوف والقلق رافقاني بشكل حاد،  كما زادت حدة الهواجس والوسواس القهري بشكل لافت. بمرور الوقت باتت تسيطر على حياتي وعلى أفكاري، وكان الأمر يتطلب جهداً كبيراً كي أخرج من هذه الحالة. وكانت محاولتي الأخيرة للانتحار في فبراير/ شباط عام 2019".
يتابع رجا: "اليوم، أصبحت نظرتي للحياة ولمستقبلي مختلفة، فعندما ينجو الإنسان من محاولة انتحار تصبح نظرته للحياة أكثر إيجابية، وبالمقارنة بين الحالتين، استطعت رؤية الحياة التي كانت سابقاً وكمّ الألم الذي تحملته وانتصرت عليه، واعتبرت أنّ حياتي تستحق هذا الانتصار".

قضايا وناس
التحديثات الحية

يضيف: "أعتبر الدور الاجتماعي الذي أقوم به حالياً من أهم التجارب التي أمرّ بها، إن كان من الناحية النفسية أو الاجتماعية، فمساعدة الآخرين لتخطي شعور الوحدة والوسواس القهري والاكتئاب هي من أهم الأعمال الإنسانية. يشعرني هذا النشاط بأنّ لي دوراً أساسياً في تغيير المجتمع، ودائماً هناك أمل بغد أفضل أعيش لأجله".
من جهتها، تقول الاختصاصية في الطب النفسي البيولوجي، منى حجازي: "هناك معياران أساسيان يجب أن يوجدا معاً ضمن أفكار الشخص عن نفسه، لتطوير الرغبة في الانتحار. الأول الانتماء المحبَط، وهو شعور الفرد أنّه وحيد ومنعزل بالرغم من وجوده وسط العديد من الناس، مما يتسبب بفقدان العناية المتبادلة، وشعوره المتكرر بالغربة وعدم الراحة في ديمومة لا تنتهي. الثاني العبء المتصوَّر، وهو اعتقاد الفرد أنّه عبء على الآخرين، وأنّ موته قد يكون أفضل بالنسبة لهم (في الغالب اعتقاد زائف). وعدم تقديره لنفسه بسبب شعوره الدائم بالعار والذنب. يحدث ذلك لعدة أسباب تتعلق بالحالة الاقتصادية والاجتماعية (بطالة، سجن، فقر، إعاقة جسدية)". 
تضيف: "حينما يصل الإنسان إلى حالة من الوحدة القاسية والشعور بالعبء لفترة طويلة، فإنّه يطور غالباً أفكاراً انتحارية، لكنّ الإقدام على حالة انخفاض الشعور بالخوف من الموت، يعدّ قفزة مختلفة تماماً لا تمكن مقارنتها بسابقتيها، فمقاومة الخوف من الموت تعني مقاومة الغريزة نفسها، وليست مجرد مقاومة لأفكارنا، ولا يمكن لإرادتنا فقط أن تقدم عليها. لهذا السبب هناك معيار ثالث لتطوير الرغبة في الانتحار". 

ننصح الأهل بأن يكونوا المساعد الأول لإيجاد معنى حقيقي لحياة أولادهم


تتابع: "لا يمكن الجزم بأنّ كلّ من حاول الانتحار مرة سيحاول مرة جديدة إذا وجد المساعدة أو توصل إلى حلّ وسط يشعره بالأمان فيتراجع عن فكرة الموت. ليس من السهل اتخاذ قرار الموت أو الإقدام على الموت، فالرغبة بالانتحار ليست وليدة لحظتها بل هي مجموع تراكمات وتخطيط مسبق. لكنّ الناجي من الموت لا يمكنه النجاة من الآثار النفسية بسهولة خصوصاً إذا لم يصل الى الأمان العاطفي والمعالجة الصحيحة، فيشعر بعدم الثقة بمن حوله، ويتصرف بعدوانية وحذر أكثر في التعامل مع الآخرين، وهذا يعيد إليه الشعور باليأس والكآبة وعدم الخوف من الموت، وفي المقابل، هناك أشخاص يصبح لديهم ذكاء عاطفي يتيح تغيير شخصيتهم نحو الأفضل".

(جو رايدل/ Getty)
(جو رايدل/ Getty)

بدورها، تعتبر سمر، وهي أم لطفلين، أنّ دافع محاولتها الانتحار، كان الخلاص من مشاكل عائلية استمرت فترة طويلة، كما أنّ تغيير مكان إقامتها الى بلد غريب لا تعرف لغته أو طبيعته كان أيضاً من الأسباب الدافعة إلى التفكير بإنهاء حياتها. تقول سمر: "المشاكل العائلية التي مررت بها وفكرة ابتعادي عن طفليّ للعودة إلى لبنان لم تكن سهلة، لأنّ أباهما رجل جيد ولست بوارد إبعادهما عنه. فلم تكن هناك وسيلة سوى الدخول في تفكير طويل، لأقرر أن أشرب عبوتي دواء زوجي، وهو مهدئ سائل من عيار ثقيل جداً، وعادة ما يتناوله بكمية ضئيلة جداً. دخلت في غيبوبة لعدة أيام، وبعدها عدت إلى المنزل وبدأت رحلتي مع العلاج النفسي لفترة طويلة". 

تتابع: "اليوم، تغيرت الحياة بالنسبة لي، بعد كلّ ما مررت به، فأصبحت أكثر إيجابية ولا أفكر بالمشاكل الموجودة بقدر ما أفكر بالحلول، وأسعى دائماً لإلهاء نفسي بأموري الشخصية وبأسرتي للحفاظ على الاستقرار النفسي". تضيف أنّ للدعم النفسي والعائلي اللذين تتلقاهما أثراً إيجابياً: "اليوم، كلّما رأيت طفليّ يكبران، أشعر أنّ هناك ما يستحق العيش لأجله دائماً، وأنّ هناك أملاً فعلاً".
تعلق حجازي أنّ للعائلة دوراً كبيراً يتجلى في تقدير ما يفعله الأبناء: "المشكلة الأساس لدى هؤلاء الأشخاص هي عدم تقديرهم واعتبار أنفسهم فاشلين لا يستطيعون تقديم شيء، وذلك نتيجة المقارنات التي يقوم بها الأهل والآراء السلبية التي يبدونها تجاه أولادهم. وهنا ننصح الأهل بأن يكونوا المساعد الأول لإيجاد معنى حقيقي لحياة أولادهم".

دوافع مرضية ومنطقية وفلسفية

تقول الاختصاصية في الطب النفسي البيولوجي منى حجازي عن دوافع الانتحار: "يمكن أن يكون مرضياً كالذُهان أو الاضطراب العقلي، فتصيب الشخص هلاوس بصرية وسمعية تدفعه نحو الموت. أو نتيجة الاندفاع بسبب تعاطي المخدرات والكحول بشكل مفرط فتصيبه الهلاوس السمعية والبصرية نفسها التي تصيب مريض الذُهان". تتابع: "بالنسبة للبعض، يستند قرار الانتحار إلى أسبابٍ منطقية، غالباً ما تكون بسبب مرضٍ مزمن ومؤلم يتعذر معه وجود أيّ أمل في تأجيل مثل هذا القرار. لا يعاني هؤلاء الناس من الاكتئاب، أو الذُهان، ولا هم في حالة سُكر، ولا يستغيثون طلباً للمساعدة؛ هم فقط يحاولون السيطرة على مصائرهم، وتخفيف معاناتهم، الأمر الذي غالباً لا يمكن أن يتم، في رؤيتهم، إلّا بالموت". وتعقب: "السبب الأخطر هم المنتحرون لسبب فلسفي على أساس حقهم باختيار نهايتهم".

المساهمون