موت نازحي سورية... رحلة البحث عن قبر في أرض ضيّقة

موت نازحي سورية... رحلة البحث عن قبر في أرض ضيّقة

05 يوليو 2021
تمكّنا من إيجاد مدفن لفقيدهما النازح في إدلب (عمر حاج قدور/ فرانس برس)
+ الخط -

منذ أكثر من عشرة أعوام، عندما يُثار موضوع المصاعب التي يواجهها النازحون السوريون في شمال البلاد، يُحكى عن تأمين المستلزمات الأساسية من خلال المساعدات الإنسانية التي تشمل المواد الإغاثية والطبية، بالإضافة إلى تجهيز البنى التحتية من خيم وعوازل وطرقات معبّدة ودورات مياه صحية ونظيفة. إلى جانب هذه الاحتياجات التي لا غنى عنها ومصاعب توفيرها، ثمّة مشكلة أخرى تشغل النازحين وهي دفن موتاهم. ففي الشمال السوري اليوم، يصعب تأمين مقابر، إلى جانب طلب مبالغ مالية كبيرة تفوق قدرة النازح الذي يعيش في خيمة منذ أعوام.
وسط التهجير، من غير الممكن دفن النازح المتوفى في مقابر العائلة في مسقط رأسه، إذ يستحيل الوصول إليها نتيجة سيطرة النظام عليها. كذلك من غير السهل العثور على مساحة للدفن في مناطق النزوح، إذ إنّ أهل البلدات يخصّصون عادة مقبرة لكلّ عائلة منهم، بالتالي لا تتوفّر قبور شاغرة. إلى جانب ذلك، ثمّة عدم قدرة من قبل الجهات المعنيّة على تأمين ما يكفي من أراضٍ لتحويلها إلى مقابر، إذ إنّه نتيجة كثافة النزوح والضغط السكاني أنشئت على معظم الأراضي المتوفّرة مخيّمات عشوائية أو نظامية أو مساكن إسمنتية.

زكريا واحد من هؤلاء النازحين الذين وجدوا أنفسهم عاجزين أمام موت أحد أفراد عائلاتهم. هو من مدينة سراقب في محافظة إدلب (شمال غرب) اضطر إلى النزوح مع عائلته في خلال الحملة العسكرية التي شنّتها القوات السورية والطيران الحربي الروسي على المدينة، لينتهي به المطاف في مدينة سرمدا في المحافظة نفسها. وفي بداية العام الجاري، غيّب الموت والده، ولم يتمكّن من العودة إلى دياره لدفنه في مسقط رأسه. يقول زكريا الذي فضّل عدم الكشف عن هويته لـ"العربي الجديد": "في قريتنا قرب سراقب، كانت لدينا مقبرة يُدفَن فيها جميع أفراد عائلتنا عندما يتوفون. لذلك كانت وصية والدي أن يُدفَن في تلك المقبرة. لكنّنا لم نتمكّن من تنفيذ وصيّته". وقبيل موعد الدفن، كاد شقيق زكريا يرتكب حماقة من خلال نقل جثّة والده إلى سراقب وتسليم نفسه للنظام السوري. هو لم يكن يعي خطورة الموقف، وكلّ ما أراده هو تنفيذ وصيّة والده. لكنّ ثمّة أقارب وأصدقاء تدخّلوا في اللحظات الأخيرة وتمكّنوا من ثنيه عن ذلك.
ولا يخفي زكريا شعوره بـ"عجز كبير" لعدم قدرته على تلبية أبسط طلبات والده بعد وفاته، ودفنه في المكان الذي يحبّ حيث أقاربه. لكنّه يعزّي نفسه، إذ صار قادراً على زيارة قبر والده متى شاء، وهو أمر حُرم منه سوريون كثر دفنوا أقاربهم وأحباءهم في مدنهم الأصلية ثمّ اضطروا بعد ذلك إلى النزوح. يُذكر أنّه بعد فوز رئيس النظام السوري بشار الأسد بولاية جديدة مدّتها سبعة أعوام، وتراجع الخطاب الدولي المهتمّ بمعاناة السوريين أو بإجبار الأسد على التنحّي، فقد هؤلاء النازحون بمعظمهم الأمل بالعودة إلى ديارهم.

مقابر ممتلئة
وبينما انحصرت مشكلة زكريا في عجزه عن دفن والده في المكان الذي أراده، تظهر معاناة أشدّ قسوة اشتكى منها حسام. هو لم يتمكّن بسهولة من توفير موقع لدفن والدته في المنطقة التي نزح إليها مع عائلته. ويخبر حسام الذي فضّل كذلك عدم الكشف عن هويته أنّ عائلته الممتدّة اعتادت منذ أجيال دفن موتاها في مقبرتها الخاصة في ريف حماة (غرب)، إلّا أنّه اضطر إلى دفن والدته في مدينة سرمدا القريبة من الحدود السورية - التركية حيث انتهى نزوحهم. ويوضح حسام لـ"العربي الجديد": "كنّا نريد دفنها بالقرب من قبر والدي، لكنّ العودة إلى قريتنا في ريف حماة كانت مستحيلة بسبب سيطرة النظام عليها وتحوّلها إلى منطقة عسكرية. لكنّ الدفن هنا لم يكن سهلاً كذلك، إذ إنّ المقابر غير متوفّرة. فهي إمّا ممتلئة وإمّا محجوزة لأشخاص من كبار السنّ من أهل البلدة الأصليّين. بالتالي، من الصعب على النازحين توفير أماكن لدفن موتاهم في المدينة". ولا يخفي حسام أنّ عائلته كادت تقع في "مشكلة حقيقية" بسبب مضيّ ساعات على الوفاة من دون القدرة على توفير قبر، ثمّ راح وإخوته يفكّرون في حفر أيّ أرض فارغة من أجل دفن والدتهم. لكن في اللحظة الأخيرة، حُلّت مشكلة العائلة عن طريق أحد فاعلي الخير الذي تكفّل بمبلغ 300 ألف ليرة سورية (نحو 640 دولاراً أميركياً) من أجل توفير قبر ونُقلت المتوفاة إليه.

الصورة
مخيم نازحين سوريين في شمال سورية (بكر القاسم/ فرانس برس)
مخيم نازحين سوريين في شمال سورية (بكر القاسم/ فرانس برس)

ويؤكد مراقبون أنّ أبرز ما يعانيه النازحون عند وقوع وفاة، استحالة الدفن في مسقط الرأس، بالإضافة إلى صعوبة توفير قبر في منطقة النزوح فضلاً عن ارتفاع سعر القبور في حال توفّرت. ويشرحون أنّ المشكلة الأساسية في توفّر القبور تتمثّل في أنّ أراضي الشمال الفارغة بمعظمها أقيمت عليها مخيّمات، حتى الأراضي الصخرية استُخدمت بسبب الضغط السكاني الهائل. هكذا لم يعد هناك ما يكفي من أراضٍ لتحويلها إلى مدافن، فتفاقمت المشكلة خصوصاً مع تفشّي فيروس كورونا الجديد.
وفي هذا الإطار، تعمل "جمعية البر والخدمات الاجتماعية" في سرمدا لمساعدة الأسر المستضعفة وتقدّم خدمات لها، من بينها توفير مقابر لموتاها. ويقول رئيس الجمعية الشيخ عبد الحميد أبو البراء لـ"العربي الجديد" إنّ "عدد سكان سرمدا كان يُقدَّر بنحو 18 ألفاً قبل عام 2011 وصار اليوم يُقدَّر بنحو 280 ألفاً، أي أنّه تضاعف بأكثر من 15 مرّة". يضيف أبو البراء: "كانت ثمّة مقبرة قديمة في سرمدا يُدفن فيها موتى عدد من عائلات المدينة، لكنّه بسبب النزوح لم تعد المقبرة قادرة على استيعاب موتى أهالي المنطقة والنازحين، إذ ضاقت بشكل كبير. لذا، اشترينا قطعة أرض جديدة مساحتها 10 دونمات غربي المدينة لندفن الموتى فيها". ويشير أبو البراء إلى أنّ "صغر مساحات الأراضي واضح جداً في مقابل الاكتظاظ السكاني الكبير"، موضحاً أنّ "كلّ أراضي المنطقة مشغولة من قبل النازحين بما في ذلك الأراضي الزراعية التي أقيمت عليها مخيّمات".

نازحون سوريون في مخيم في شمال غربي سورية (عارف وتد/ فرانس برس)
رغم النزوح يتمسّك بدفنه في مسقط رأسه (عارف وتد/ فرانس برس)

ويتابع أبو البراء أنّ "من بين الأمور التي تزيد تلك المشكلة كذلك تمنّع عدد كبير من مالكي الأراضي عن البيع عندما يعلم هؤلاء أنّ الأرض سوف تتحوّل إلى مقبرة. فالناس يتخوّفون من فكرة القبور، ويستمرّ امتناعهم حتّى لو دفعنا لهم مبالغ إضافية. كذلك فإنّ محيط سرمدا ومدن أخرى من المناطق الجبلية الصخرية التي لا تصلح لتحويلها إلى مقابر".

مبادرة لحلّ الأزمة
من جهة أخرى، يتحدّث مدير مخيم التح في ريف إدلب محمد عبد السلام اليوسف لـ"العربي الجديد" عن المصاعب التي تواجه النازحين في دفن موتاهم. ويؤكد اليوسف أنّ "ثمّة مشكلات كبيرة لدينا تظهر عند حدوث وفيات في المخيّم والبحث عن مكان لدفن الموتى. فثمّة أشخاص مضى على نزوحهم خمسة أعوام أو ستّة وثمّة آخرون مضى على نزوحهم نحو عشرة أعوام. لذلك، فإنّ القرى المحيطة التي تملك مقابر صغيرة وكانت تسمح للنازحين بدفن موتاهم فيها، لم تعد قادرة على ذلك حالياً، بسبب امتلاء القبور بمعظمها وعدم توفّر حيّز كافٍ لدفن مزيد من الموتى".

ويشير اليوسف إلى أنّ "ثمّة قرى رفضت من الأساس دفن النازحين في مقابرها، من منطلق توفّر أعداد محدّدة من القبور مخصّصة لدفن موتى عائلاتها. وهي فكرة متوارثة في سورية، إذ تُخصَّص مقابر أو أجزاء من مقابر لدفن أفراد كلّ عائلة جنباً إلى جنب". يضيف اليوسف أنّ "عدداً من القرى في المناطق حيث أُقيمت مخيّمات في الشمال السوري، عمدت إلى تجربة جديدة تقضي بجمع تبرّعات من أعيان القرية ووجهائها لشراء قطعة أرض ثمّ تحويلها إلى مقبرة وتسميتها باسم القرية لاستيعاب مزيد من النازحين". ويتابع اليوسف: "أنا من بلدة التح في ريف إدلب وقد جمعنا كناشطين تبرّعات من القرية واشترينا قطعة أرض تحوّلت إلى مقبرة التح وصارت تستقبل موتى المخيّمات المحيطة أو حتى من أهل البلدة الأصليّين ومن أهل مناطق مجاورة". ويقترح اليوسف لحلّ هذه المشكلة أن "تعمد الحكومة السورية المؤقتة أو حكومة الإنقاذ إلى تخصيص مقابر من الأملاك العامة أو أراض مشاع كمقابر للتجمّعات السكانية في الشمال السوري".

المساهمون