منظمة الصحة العالمية... الانسحاب لن يمكن أميركا من هزم الأمراض

26 يناير 2025
يحصل على لقاحي الإنفلونزا وكوفيد-19، 28 أغسطس 2024 (كريستينا هاوس/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- قرار ترامب بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية يعكس أبعادًا سياسية تتعلق بتأثير الدول الأعضاء، مثل الصين، على قرارات المنظمة في جائحة كوفيد-19.
- الانسحاب قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على الصحة العامة، خاصة في الدول النامية، ويزيد من تعرض الولايات المتحدة للتهديدات الميكروبية بسبب فقدان الوصول إلى قاعدة البيانات العالمية.
- حيادية المنظمة تسهل التعاون الدولي، والانسحاب الأميركي قد يخلق فجوة مالية تؤثر على دعم الدول النامية، مما يستدعي تدخل دول أخرى لسد هذا النقص.

لن تظهر تداعيات قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية قبل 12 شهراً، إلا أن الخبراء يحذرون من احتمال تفشي الأمراض داخل البلاد وخارجها، بالإضافة إلى تأثر الدول النامية.

لا يمكن نفي البعد السياسي لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والمتعلّق بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية. صحيح أن السبب، على حد قوله، هو إساءة المنظمة التعامل مع "كوفيد-19" وغيرها من الأزمات الصحية الدولية.
لكنه قال أيضاً إن منظمة الصحة لم تتصرف بمعزل عن "التأثير السياسي غير المناسب للدول الأعضاء فيها"، وطالبت بـ"مدفوعات باهظة على نحو غير عادل" من الولايات المتحدة لا تتناسب مع المبالغ التي قدمتها دول أخرى أكبر مثل الصين، في إشارة إلى أن عدد سكان الصين يبلغ 300% من سكان الولايات المتحدة لكنها تساهم بنسبة أقل بـ90% في منظمة الصحة.
وفي التفاصيل، تضمّن الأمر التنفيذي أن الولايات المتحدة تنسحب "بسبب سوء تعامل المنظمة مع كوفيد-19 الذي نشأ في ووهان في الصين، وأزمات صحية عالمية أخرى، وفشلها في تبني إصلاحات عاجلة ضرورية، وعجزها عن إثبات استقلاليتها عن التأثير السياسي غير المناسب من الدول الأعضاء". وكان ترامب، إلى جانب خبراء آخرين في الصحة العامة، قد انتقدوا المنظمة سابقاً لعدم تحميل الصين المزيد من المسؤولية عن استجابتها البطيئة للتحقيق الذي أجرته منظمة الصحة العالمية في أصول كوفيد-19.

وهذه هي المرة الثانية التي يحاول فيها ترامب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية؛ ففي عام 2020، وخلال تفشي فيروس كوفيد-19 وقبل نهاية ولايته الأولى، قدم رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، يعلن فيها نية الولايات المتحدة الانسحاب. ورغم توقف التمويل الأميركي، إلا أن الانسحاب لم يحدث. وبعد نحو ستة أشهر، كتب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في أول يوم له في منصبه إلى الأمين العام قائلاً إن الولايات المتحدة ستظل عضواً في منظمة الصحة العالمية.

عدم تشارك البيانات سيؤثر على القدرة على تتبع الأمراض المتفشية

قرار ترامب الأخير لا يعني انسحاباً مباشراً. فبحسب اتفاق منظمة الصحة العالمية مع الولايات المتحدة، تقدم الأخيرة إشعاراً مسبقاً لمدة عام تدفع خلاله أي رصيد باقٍ للمنظمة، إلا في حال تحرّك الكونغرس لتنفيذ الانسحاب، كما يحذر خبراء. على أية حال، يترك هذا الوقت الاحتمالات مفتوحة أمام التفاوض، ربما.  
لنعد إلى بداية العلاقة بين الطرفين. كانت الولايات المتحدة عضواً مؤسساً لمنظمة الصحة العالمية عام 1948، وشاركت في تشكيل وإدارة عمل المنظمة منذ ذلك الحين، إلى جانب 193 دولة عضواً أخرى، بما في ذلك من خلال مشاركتها النشطة في جمعية الصحة العالمية والمجلس التنفيذي. وعلى مدى أكثر من سبعة عقود، أنقذت المنظمة والولايات المتحدة أرواحاً لا حصر لها.
وقدمت الولايات المتحدة الدعم الفني لمنظمة الصحة العالمية من خلال مجموعة من الأنشطة والشراكات. ويشمل الدعم خبراء من الحكومة الأميركية وموارد تدعم الأبحاث وأعمال المختبرات، من خلال مراكز التعاون واللجان الاستشارية. كما عملت الولايات المتحدة في إطار شراكة مع منظمة الصحة العالمية قبل وأثناء الاستجابات لتفشي الأمراض وغيرها من حالات الطوارئ الصحية الدولية، بما في ذلك المشاركة في الفرق الدولية التي تنظمها المنظمة للتحقيق بتفشي الأمراض والاستجابة لها في جميع أنحاء العالم، على غرار وباء إيبولا الذي بدأ في غرب أفريقيا عام 2014. والولايات المتحدة هي أكبر داعم مالي لمنظمة الصحة العالمية، إذ تساهم بنحو 18% من إجمالي تمويلها. 
يشار إلى أنه في عام 2024، أطلقت منظمة الصحة العالمية أول جولة استثمارية لها على الإطلاق، سعياً إلى حشد سبعة مليارات دولار إضافية من المانحين الحاليين والجدد لدعم عملياتها حتى عام 2028. وبحلول نهاية عام 2024، أفادت المنظمة بأنها تلقت 3.8 مليارات دولار من تعهدات المانحين الإضافية، وهو ما يعادل 53% من هدف جمع التبرعات.

خلال خضوع مريضة بكوفيد-19 للعلاج في أحد المستشفيات الأميركية، 31 يناير 2022 (سكوت أولسون/ Getty)
علاج مريضة بكوفيد-19 في أحد المستشفيات الأميركية، 31 يناير 2022 (سكوت أولسون/Getty)

ماذا يقول الخبراء في ما يتعلق بتداعيات قرار الانسحاب؟ تنقل مجلة "تايم" الأميركية عن عميد كلية الصحة العامة في جامعة "براون" الأميركية ومنسق الاستجابة السابق لكوفيد-19 في البيت الأبيض، آشيش جها، قوله: "قد لا يكون واضحاً على الفور التأثير بالنسبة للأميركيين. لكن نظراً إلى العالم الذي نعيش فيه، وجميع العوامل التي تؤدي إلى المزيد من تفشي الأمراض، لا تستطيع أميركا محاربتها بمفردها. نحن بحاجة إلى منظمة الصحة العالمية الفعالة ليس للحفاظ على سلامة العالم من هذه الأمراض فحسب، لكن للحفاظ على سلامة الأميركيين من هذه الأمراض أيضاً".
يضيف أن العواقب المحلية الأكثر مباشرة ترتبط بعدم اطلاع الولايات المتحدة على قاعدة بيانات منظمة الصحة العالمية الخاصة بسلالات الإنفلونزا المتغيرة، وبالتالي قد يدخل المزيد من الأميركيين إلى المستشفيات ويموتون بسبب عدوى الإنفلونزا. يضيف: "في الوقت الحالي، يموت 30 ألف شخص مسن معرضون لخطر الإصابة بمضاعفات الإنفلونزا كل عام بسبب الإنفلونزا. وإذا لم نصنع لقاحات، أو إذا كانت لقاحاتنا غير جيدة أو فعالة، فسوف نرى هذه الأرقام ترتفع".
بسبب عدم كونها عضواً في منظمة الصحة العالمية، ستفقد الولايات المتحدة القدرة على الوصول إلى قاعدة البيانات العالمية للمعلومات الصحية التي تتضمن مراقبة الأمراض المعدية الجديدة والموجودة، ما قد يجعل البلاد أكثر عرضة للتهديدات الميكروبية من جميع أنحاء العالم. ويقول جها: "هذا يعني أننا سنرى المزيد من تفشي الأمراض".

حيادية منظمة الصحة تسهل عمل جميع الخبراء في مختلف الدول

من جهته، يتحدث مدير مركز ترشيد السياسات في الجامعة الأميركية ببيروت، د. فادي الجردلي، لـ"العربي الجديد"، عن مجموعة أمور من المهم الالتفات إليها. يوضح أن منظمة الصحة العالمية مسؤولة عن الأمن الصحي في العالم، والولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة الملتزمة بالتمويل، مشيراً إلى أن ترامب استخدم استراتيجية الصدمة من خلال اتخاذ قرار أساسي، للتفاوض على عروض أفضل سواء مع الصين أو المنظمة. إلا أنه يخشى تأثير الدومينو، أي أن تعمد دول أخرى إلى التهديد بالانسحاب، خصوصاً أن العديد منها لا تزال تُحمّل المنظمة المسؤولية عن فشل الاستجابة لكوفيد-19، وإن كان لا يتوقع حدوث ذلك.   
ويرى الجردلي أن التداعيات أساساً لها علاقة بالأمن الصحي، موضحاً أن قوة المنظمة تتمثل في بياناتها حول كل الأمراض والفيروسات؛ فحين لا تكون قادرة على الولوج إليها في وقت قليل، يمكن أن يكون لذلك تداعيات، على غرار ما شهدناه خلال تفشي كوفيد-19، إذ عرفت المنظمة عن الفيروس بعد تفشيه. بالتالي، إلى أي مدى ستكون المنظمة قادرة على مراقبة الأمراض العالمية؟ في الوقت نفسه، ستتأثر الولايات المتحدة لأنها لن تحصل على المعلومات الدقيقة حول الأمراض الطارئة، على حد قوله.

أمر آخر يتطرق إليه الجردلي يتعلق بالإرشادات حول اللقاحات وغير ذلك. لكن يبقى التمويل من التداعيات الأبرز، خصوصاً أن نسبة تمويل الولايات المتحدة للمنظمة كبير. وانسحابها سيخلق فجوة مالية سيكون لها آثار كبيرة على الدول النامية مثل أفريقيا ودول الشرق الأوسط، وعلى القدرة على الاستجابة للأمراض ومكافحتها، على غرار الملاريا وشلل الأطفال ونقص المناعة البشرية وغيرها، كما سيؤدي إلى تراجع دورها في تدعيم النظم الصحية (الشرق الأوسط)، وستوجب على الدول العمل على تعزيز قدراتها الصحية في ظل انخفاض التمويل، إلا في حال عملت دول أخرى على سد النقص الذي ستحدثه الولايات المتحدة، مثل روسيا أو الصين.
يتابع الجردلي أنه في حال حدوث تفشٍّ لفيروس جديد، لن تكون الولايات المتحدة في أمان لأنها تحتاج إلى منظمة الصحة العالمية. يضيف أن قرارها يعني حجب المال عن المنظمة التي تستخدمه لمنع تفشي الأمراض. والأخطر أنه لن يكون هناك قدرة على الولوج إلى البيانات لحماية العالم من الأمراض، فلا يمكن لأميركا وحدها محاربة تفشي فيروس معين. ويختم حديثه قائلاً إن الخوف هو على نظام التنبيه للوباء وتتبعه.
يذكر الرئيس والمدير التنفيذي لمنظمة الصحة غير الربحية "عزم على إنقاذ الأرواح" والمدير السابق لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة، توم فريدن، في حديثه لمجلة "تايم"، أمراً أساسياً يتعلق بحيادية منظمة الصحة العالمية. يقول إنه في وقت مبكر من حياته المهنية، وأثناء عمله لدى مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، كُلّف بالعمل مع منظمة الصحة العالمية في الهند في برنامجها للسيطرة على مرض السل. يقول: "لم أكن لأتمكن من القيام بما فعلته كوني موظفاً في مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، لولا أن الإطار غير السياسي لمنظمة الصحة العالمية مكنني من السفر في جميع أنحاء الهند، والالتقاء بمسؤولين محليين رفيعي المستوى، وتنفيذ برامج للحد من انتشار مرض السل". 
يضيف: "هناك الكثير من الأماكن التي لا يمكننا أن نكون فيها أميركيين، لأسباب تتعلق بالسلامة ولأسباب سياسية. وتوفر منظمة الصحة العالمية تلك المساحة حيث يمكن للدول التي قد لا تتفق على أي شيء آخر إجراء مناقشة". ويذكر مرض الجدري، الذي تطلب من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي آنذاك العمل معاً من خلال منظمة الصحة العالمية، وتم القضاء عليه أثناء الحرب الباردة.

المساهمون