مفقودو غزة... عائلات تبحث عن جثامين أبنائها تحت الركام
استمع إلى الملخص
- يعاني جهاز الدفاع المدني في غزة من عجز كبير في أداء مهامه بسبب تدمير الاحتلال للمعدات الثقيلة ومنع دخولها، مما يعرقل جهود انتشال الجثامين ويزيد من معاناة العائلات، ويتطلب تدخلاً دولياً عاجلاً.
- تروي العائلات قصصاً مؤلمة عن فقدان أحبائها تحت الأنقاض، مما يعكس حجم المأساة الإنسانية في غزة، حيث تحولت أماكن مثل مدرسة البراق إلى مقابر جماعية صامتة.
ينهمك أهالي غزة بأعمال حفر بدائية بحثاً عن جثامين أحبائهم تحت الأنقاض، وسط عجز الدفاع المدني عن انتشالها لانعدام المعدات الثقيلة التي دمرها الاحتلال، ما يفاقم الآلام والجراح المفتوحة.
تحت ركام البيوت المدمرة في مختلف أحياء وشوارع وأزقة قطاع غزة، تبحث مئات العائلات الفلسطينية عن جثامين شهدائها الذين فُقدوا إثر القصف الإسرائيلي وحرب الإبادة الجماعية التي استمرّت عامين. لم تتمكن تلك العائلات حينها من انتشال جثامين ورفات أحبائها، من جراء انعدام الظروف الأمنية المؤاتية، وعدم توفر المعدات اللازمة للنبش والحفر.
وفي أعقاب دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، انهمكت تلك العائلات بأعمال الحفر والنبش أسفل أكوام الحجارة بوسائل بدائية، في محاولة منها لطيّ صفحة الألم والوجع التي لن تنتهي إلا بعد انتشال الشهداء، وإكرامهم بالدفن والصلاة، وذلك وسط عجز جهاز الدفاع المدني في القطاع عن القيام بمهامه، نظراً لاستمرار الحصار الإسرائيلي ومنع إدخال المعدات الثقيلة المخصصة لهذه الأعمال.
وأفاد جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة بأن أكثر من 10 آلاف شهيد لا يزالون تحت الأنقاض، منذ بداية العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 والذي استمر عامين متواصلين، وهو ما يعكس فداحة الحرب التي شنّها الاحتلال على المدنيين العُزّل.
يؤكد الناطق باسم الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، أن جهاز الدفاع المدني عاجز عن انتشال الجثامين من تحت الأنقاض، لأن المعدات الثقيلة غير موجودة، والاحتلال دمّر كل ما يملكونه منها. ويشير لـ"العربي الجديد" إلى أن ملف المفقودين هو "الملف الأصعب الذي يواجه الدفاع المدني منذ بداية الحرب". ويضيف: "يومياً نتلقى إشارات من عائلات تبحث عن أبنائها، لكننا عاجزون. نحتاج إلى جرافات وبواقر وكباشات ضخمة، وهذه المعدات ما زالت عالقة عند المعابر".
ويتابع بصل: "هناك حديث عن دخولها، لكن لم يدخل منها أي شيء، في تنصل إسرائيلي واضح من البروتوكول الإنساني الذي جرى التوافق عليه في اتفاق التهدئة، ما يؤدي إلى تعطيل عملنا بشكل كامل". ويوضح أن الوقت الذي سيستغرقه إتمام المهمة يعتمد على كمية المعدات التي يسمح الاحتلال بإدخالها.
ويؤكد أن عشرات العائلات تحاول بأيديها نبش الركام، بحثاً عن جثامين أبنائها من خلال استخدام وسائل بدائية. ويحذّر بصل من أن "هذه الممارسات تشكل خطراً على حياتهم في كثير من الأحيان، خصوصاً مع وجود مخلفات الحرب التي لا يجيدون التعامل معها، ولا يمتلكون الخبرة بشأنها، لكنهم لا يملكون خياراً آخر. كثيرون يستشيروننا، ونحن نوجههم إلى مكان الحفر أو نتأكد من عدم وجود قنابل غير منفجرة". وينبّه إلى "أننا أمام كارثة إنسانية حقيقية، فالجثامين لا تُدفن، والأمراض تتكاثر بسبب تحلل الجثث، والركام يسبب أمراضاً صدرية للأهالي. كل ما نطلبه إدخال المعدات اللازمة، حفظاً للكرامة الإنسانية".
حكاية وجع لا يندمل يعيشها الفلسطيني، عبد الرحيم خضر، الذي صبّت طائرات الاحتلال الإسرائيلي جلّ غضبها على عائلته، حينما قصفت منزله المكون من خمسة طوابق في يونيو/ حزيران الماضي، في حي الجرن بمنطقة جباليا البلد. وبصوت يكسوه القهر، يقول خضر لـ"العربي الجديد": "من دون سابق إنذار، قصف طيران الاحتلال بوحشية منزل عائلتي حينما كنت خارجه، وكان يضم 36 فرداً، بينهم والداي وإخواني وأعمامي وعائلاتهم، وحوّله إلى أكوام من ركام وحجارة".
يعيش خضر الذي يعمل مصوراً صحافياً، وجعاً مزدوجاً يتمثل بفقدان عائلته في مجزرة مروّعة وبعدم تمكنه من انتشال جثامينهم، الأمر الذي يفاقم مأساته، ويضيف: "منذ قصف المنزل وأنا أعيش الوجع المتواصل، كوني لم أتمكن من وداع أفراد عائلتي وإكرامهم بالدفن. كل يوم أتوجه نحو ركام المنزل بحثاً عن جثامينهم، لكن من دون جدوى".
ويستغيث قائلاً: "أطلق اليوم صرخة إنسانية من تحت ثقل الألم والركام، لإخراج جثامين عائلتي المحتجزة تحت الأنقاض. أناشد شتى المؤسسات الدولية وطواقم الدفاع المدني، والمنظمات المحلية، أن تتحرك فوراً لإنقاذ ما تبقى من كرامة الموتى. أملي الوحيد في أن أحتضن أحبّتي، ولو أنهم جثامين باردة، لكن للأسف ما من أحد يسمع صراخي". ويكمل خضر: "بينما دخلت الفرحة منازل غزة بعد إعلان وقف إطلاق النار، لا يزال قلبي غارقاً في الحرقة والوجع، فقد رحل أحبّائي جميعهم. ندائي اليوم نابع من قلب فَقَد كل شيء، وينتظر فقط أن يودّع أهله كما يليق بالشهداء".
أما الفلسطينية منال الحصري (39 عاماً) والتي تقطن في حي الشيخ رضوان شمال غربي مدينة غزة، فتُخبر "العربي الجديد" كيف قصف الاحتلال منزلهم في 18 مارس/ آذار 2024، ما أدى إلى استشهاد زوجها عاطف (46 عاماً) وأربعة من أبنائها، ملك ومها ومرام ومصعب. وتضيف الحصري: "خرجت حينها برفقة ابني محمد لشراء الخبز عند ساعات الصباح، ولدى عودتنا ظهراً، وما إن بلغنا أول الشارع، حتى قُصف منزلنا المؤلف من أربعة طوابق، فكان أن لقي زوجي وأبنائي الأربعة حتفهم".
وتكشف أنها تواصلت مع الدفاع المدني وسجلت أسماء مفقوديها، لكنهم أبلغوها أنهم بحاجة إلى معدات وحفارات ضخمة. وتتابع: "حاولنا مراراً الاستعانة بعمّال للحفر، لكنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى الجثامين. الركام هائل، والبيوت متداخلة. كل ما أتمناه اليوم انتشال جثامين أحبائي ودفنهم بكرامة".
وفي شارع النفق شرقي مدينة غزة، تقف ملكة أيوب النخالة أمام مبنى لم يبقَ منه سوى الغبار وأسياخ الحديد، وتروي لـ"العربي الجديد" تفاصيل الحادثة الأليمة التي ألمّت بهم، وتقول: "في 31 مايو/ أيار 2025 طلب الاحتلال إخلاء المنطقة، لكنه لم يخبرنا بداية عن المبنى السكني الذي ينوي قصفه. خرجنا جميعاً، لكن ابني يوسف أخبر والده أنه سيجلب أغراضه ويلحق به. وبعد مرور وقت قصير قصف الاحتلال المبنى الذي نقطنه، والمؤلف من أربعة طوابق، وكان يوسف (27 عاماً) لا يزال داخل المنزل".
وتضيف النخالة: "أربعة طوابق مُسحت بالكامل. يوسف كان في الطابق الثالث، وقد رآه البعض حينها واقفاً عند الشباك، ومنذ ذلك اليوم لم نعثر على أي أثر له. حاولنا مراراً الحفر، لكننا لم نفلح في الوصول إلى جثمانه. نريد أن نكرّمه بالدفن، حتى لو بقيت منه عظمة واحدة".
في شهادة أخرى، يروي شقيق الشهيد سامر سليم عوض عيشان (46 عاماً) مأساة قصف مدرسة البراق في منطقة الرمال بمدينة غزة، والتي كانت تؤوي عشرات النازحين، ويقول لـ"العربي الجديد": "استُهدفت المدرسة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وسقط فيها أكثر من 70 شهيداً. كان أخي سامر برفقة خمسة أشخاص على الأقل داخل أحد الصفوف. ولدى عودتنا بعد اتفاق وقف إطلاق النار، وجدنا الصف الذي كانوا فيه تحت طابقين كاملين من الركام".
ويتابع عيشان: "ما من طريقة لرفع الركام سوى باستخدام البواقر والجرافات، إذ لا يمكننا أن نقوم بهذه الأعمال بأيدينا، إنه أمر مستحيل. لقد سمعنا الكثير من الوعود من جهات عديدة تعهدت بإدخال المعدات ومساعدتنا، لكننا لغاية اليوم لم نشهد أي عمل على أرض الواقع". ويتحسر شقيق الشهيد على والدَيه المسنّين اللّذين لن يهنأ لهما عيش إلا بعد دفن فقيدهما.
فقد تحوّلت مدرسة البراق التي كانت ملجأ لأهالي غزة الناجين إلى مقبرة جماعية صامتة. بين جدران صفوفها المحطمة لا يزال جثمان سامر محتجزاً إلى جانب جثامين عشرات الشهداء، بانتظار آلياتٍ ومعدات ثقيلة من المقرّر وصولها في وقت قريب، وفقاً لما جرى إعلانه.
وسط هذه المشاهد المفجعة واستمرار معاناة الأهالي، يبدو أن الركام في غزة لم يعد مجرد جزء من بقايا حرب وحشية، إنما صار عبارة عن مقبرة معلّقة في الهواء. كلّ حجر يحمل اسماً، وكلّ فجوة تخبّئ وجهاً، وكل والدة تنتظر خبراً عن فلذات الأكباد والأحبّاء المفقودين، ولو عُثر فقط على أشلاءٍ منهم. وبعد عامين على حرب الإبادة الجماعية التي شنّتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، تواصل غزة أعمال الحفر والنبش، ليس لغرض البناء وإعادة الإعمار، إنما سعياً لانتشال جثث أحبّة بقوا تحت الردم والركام.