مركز غوم التجاري... الروس يتسوقون منذ القرن السابع عشر
استمع إلى الملخص
- التطورات الاقتصادية والتجارية: شهد تحولات كبيرة، من احتضانه للوزارات في الحقبة السوفييتية إلى خصخصته في التسعينيات. رغم تراجع الأرباح بعد انسحاب العلامات الغربية، يظل وجهة للأثرياء.
- الأهمية الثقافية والسينمائية: يُعتبر رمزاً ثقافياً وسينمائياً، حيث صُورت فيه أفلام كلاسيكية ويُستخدم كموقع تصوير رئيسي، مما يجعله وجهة مفضلة للزوار.
على بُعد أمتار من الكرملين، يستوقفك مبنى لافت للأنظار يُطل على الساحة الحمراء وسط موسكو. إنه مركز غوم التجاري الذي يعود تاريخه لأكثر من قرن وربع قرن من الزمن، وهو أحد أهم معالم العاصمة الروسية، يستقطب المواطنين الروس والسيّاح الأجانب، بمن فيهم العرب الذين يزداد عددهم عاماً بعد عام.
افتُتح المركز التجاري في ديسمبر/ كانون الأول 1893، وحمل بداية مسمّى "الصفوف التجارية العليا". لكن سرعان ما تحول إلى أحد رموز الإمبراطورية الروسية أولاً، ثم الاتحاد السوفييتي. واللافت أن أعمال بناء المركز استغرقت ثلاث سنوات فقط، مع اعتماد الأسلوب المعماري الروسي، على أيدي المهندسَين المعماريين الروسيين، ألكسندر بوميرانتسيف وفلاديمير شوخوف.
بعد افتتاح المركز أو ما يُعرف بـ"الصفوف التجارية" حينها، كان يمكن شراء أي شيء، ما شكل ثورة بمقاييس ذلك الزمن، حيث احتضن صالوناً لتزيين الشعر ومطعماً، وحتى مكتب بريد. مع العلم أنه لم يتم اختيار موقع المركز صدفة، حيث كان هذا الموقع يحتضن صفوفاً تجارية منذ عهد القيصر أليكسي رومانوف في القرن السابع عشر ميلادي. وفي عام 1921، مُنح المركز اسم "غوم"، وما زال يحمل الاسم ذاته لغاية اليوم، وهو اختصار لعبارة "المتجر الحكومي العام".
ويشير مدير مكتب راديوس للرحلات في موسكو، أنطون لاتينين، إلى أن مركز غوم وموقعه يختزلان دلالات كبيرة تجسد المراحل التاريخية المختلفة التي مرّت بها روسيا، ولا سيما العصر السوفييتي الذي يمكن رصد مظاهره حتى اليوم، ما يزيد من جاذبيته بالنسبة للزوار.
ويقول لاتينين لـ"العربي الجديد": "موقع المركز له دلالة تاريخية كبيرة في تاريخ موسكو، كما شكل افتتاح الصفوف التجارية ثورة في عالم التجارة بمقاييس ذلك الزمن، حيث تمّت كتابة الأسعار على السلع لأول مرة. وهناك حقائق طريفة كثيرة تتعلق به، ومنها مثلاً أن الطابقين الثاني والثالث كانا يحتضنان في الفترة السوفييتية المبكرة شققاً سكنية جماعية لأكثر من أسرة".
يعود تاريخ مركز غوم لأكثر من قرن وربع القرن، وهو أحد أهم معالم موسكو، يستقطب الروس والسيّاح، ويحمل موقعه دلالة تاريخية وثورة بعالم التجارة
وبحلول عام 1930، كادت التجارة أن تتوقف في "غوم"، بعد أن احتضن المبنى وزارات وجهات حكومية مع تخصيص جزء من مسطحاته لسكن العاملين. كما اقتضى تخطيط إعادة بناء موسكو الذي اعتمده الزعيم السوفييتي آنذاك، جوزيف ستالين، إزالة "غوم" بشكل كامل، لكن عامل الوقت لم يسمح بذلك قبل دخول روسيا الحرب العالمية الثانية عام 1941.
وعقب وفاة ستالين عام 1953، أصدر المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي ومجلس وزراء الاتحاد السوفييتي قراراً باستئناف التجارة في "غوم". وبعد إعادة افتتاحه، ضمّ "غوم" 11 قسماً، بما فيها منتجات الغزل والنسيج والملابس الجاهزة والأحذية والأثاث والسجاد والفرو ولعب الأطفال وغيرها. وبحلول نهاية الستينيات، ارتفع عدد روّاد "غوم" إلى نحو 200 ألف يومياً.
بعد الحرب وانسحاب علامات تجارية غربية، تهاوت أرباح مركز غوم الذي كان يحتضن نهاية الستينيات 200 ألف زائر يومياً
وبحلول التسعينيات، احتضن "غوم" عدداً كبيراً من المتاجر المستقلة. ومع انتقال الاتحاد السوفييتي من الشيوعية إلى الرأسمالية في السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية، جرت خصخصة "غوم" عام 1990 مع تحوله إلى الشركة المساهمة "المركز التجاري غوم" مع أكثر من 15 ألف مساهم، أغلبهم من الأفراد.
ومع ذلك، يلفت لاتينين، مدير مكتب راديوس للرحلات، إلى أن "غوم" يحافظ حتى اليوم على العديد من المظاهر السوفييتية، عبر إطلاق التسميات السوفييتية مثل "غرفة الطعام 57" نسبة إلى عام 1957، حين احتضنت موسكو المهرجان العالمي للشباب والطلاب، وسط توافد المشاركين من أنحاء العالم كافة، وأكشاك بيع البوظة السوفييتية.
تبلغ المساحة الإجمالية لـ"غوم" نحو 80 ألف متر مربع، وتشكل المسطحات التجارية نحو 35 ألفاً منها. ومع تمدد جائحة "كوفيد - 19" عام 2020، احتضن "غوم" مركزاً للقاحات استقبل نحو 5 آلاف شخص يومياً. وبعد بدء المرحلة الساخنة من الحرب الروسية - الأوكرانية عام 2022 وما ترتب عنها من انسحاب عدد من العلامات التجارية الغربية من السوق الروسية، تهاوى صافي أرباح "غوم" في العام 2021 من 1.8 مليار روبل (نحو 22.5 مليون دولار أميركي وفقاً لسعر الصرف الحالي) إلى 328 مليون روبل فقط (نحو أربعة ملايين دولار) في العام 2022.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أعرب ميخائيل كوسنيروفيتش، وهو صاحب حصة تزيد على 97% من أسهم "غوم"، عن استعداده لتفريغ مواقع المتاجر الأجنبية المغلقة للعلامات التجارية الروسية، مشككاً في الوقت نفسه بقدرة المصممين الروس على الحلول مكان العلامات الغربية الفاخرة بشكل كامل.
يحافظ "غوم" على المظاهر السوفييتية ومكانته السينمائية، ويبقى التسوق فيه حكراً على الأثرياء
ومع ذلك، يؤكد لاتينين أن سلعة فاخرة تلبي كل الأذواق لا تزال متوفرة في "غوم"، ويضيف: "ثمة علامات تجارية عالمية لا تزال فروعها موجودة في "غوم"، بما يلبي أذواق السيّاح الخليجيين من محبّي التميز. ويبقى التسوق في "غوم" حكراً على الأثرياء، علماً أنه حتى قبل انسحاب العلامات التجارية الأجنبية، لم يكن التسوق في المركز بمتناول سكان موسكو من أصحاب الدخل المتوسط".
ونظراً لتحوله في أذهان الروس إلى أحد أهم رموز العاصمة الروسية، انعكس "غوم" في مرآة الفن والسينما الروسية. ولعل أشهر أعمال كلاسيكيات السينما السوفييتية، فيلم "أنا أسير في موسكو" من إخراج جورجي دانيليا وسيناريو غينادي شباليكوف، تم تصوير قسم من مشاهده في "غوم". ويوضح لاتينين أن اختيار "غوم" لتصوير مثل هذا الفيلم الأسطوري لم يكن صدفة، مستطرداً: "يبدو أنه اتخذ قرار الترويج لمركز غوم على مستوى الاتحاد السوفييتي عبر اختياره لتصوير قسم مهم من مشاهد فيلم شكل رمزاً لتخفيف القبضة الحديدية للسلطة بعد وفاة ستالين، وكُتب لشباليكوف أن يكون صوتاً لهذا العصر".
وعن مكانة "غوم" السينمائية، يقول المخرج السينمائي الروسي الشهير، نيكيتا ميخالكوف، الذي أدّى أحد الأدوار في الفيلم المذكور: "غوم في ذهني ليس المتجر الأكبر، إنما ساحة للتصوير، إذ ارتبط بتلك الأيام الحارّة، عندما صوّرنا فيلم 'أنا أسير في موسكو'. كانت الأجواء مليئة بالقلق والفرح لجهة العمل مع جورجي دانيليا وشركائي في الفيلم".
ولا يزال "غوم" ساحة رئيسية للتصوير حتى اليوم، حيث يمكن ملاحظة عرسان بملابس الزفاف يستمتعون بجلسات تصوير وسط أجوائه الكلاسيكية الفريدة. ومع نهاية كل عام، يتمّ نصب أشجار الميلاد داخل "غوم" وفي محيطه، لتصبح الجولة فيه جزءاً لا يتجرأ من برنامج قضاء عطلة عيدَي الميلاد ورأس السنة بين سكان موسكو وضيوفها.